مقال

كلام في الجهل

بقلم عاصم صبحي

كلام في الجهل

أحببت القراءة و الاطلاع منذ صغري ، لا يحضرني كم كان عمري آنذاك و لا المرحلة الدراسية ، لكن علي ما أعتقد مع بداية المرحلة الإعدادية ، و كان لمدرستي العريقة سان مارك فضل كبير في اكتشاف و تنمية هذه الهواية العظيمة ، إذ كان يقام في احدي القاعات الكبيرة بالمدرسة معرض للكتاب كل عام ، في نفس الميعاد من كل عام ، و كان معرضًا كبيرًا ذائع الصيت في الاسكندرية ، فقد كان مفتوحًا لجمهور الاسكندرية عامة .
كنت من رواد هذا المعرض ، و أنتظره من العام للعام ، لم تكن نفسي لتحصر نفسها في مجال قراءة واحد ، بل كانت منفتحة و شغوفة و محبة للكتاب طالما كان محتواه فيه اضافة سواء فكرية أو علمية أو معلوماتية ، أتجول بين الكتب ، أنتقي منها واحد أو اثنان لا أكثر ، كان يجذبني في بداية الأمر عنصر التشويق ، فكنت من قراء الألغاز ، كقراءة ترفيهية ، أما قراءة المعرفة فالثقافة لا يحدها حدود ، فالمجالات عديدة و الكتب كثيرة ، و الفوز دائما للأكثر جاذبية في تقديمه للمحتوي مع بساطة و رشاقة التقديم بلغة سلسة ، مراعيًا في ذلك حداثة سني بالطبع ، قرأت في التاريخ و شغفت بالمستقبل ، و غصت في عالم البحار ، و تجولت بالصحاري ، و انبهرت بالفضاء ، و ازددت عمقًا بالقصص و العبرات و السير الذاتية لأصحاب البطولات و المغامرات .
نَمَت الهواية و تأصلت ، مررت بفترات انقطاع ، قد تطول الفترة لعدة شهور ، أو في أقصاها لعدة سنوات ، فعلي مدار ثماني سنوات أو أكثر لم أقرأ سوي كتاب أو اثنين ، في فترة كانت من أصعب الفترات الحياتية ، إذ نسيت ذكر الله فأنساني نفسي ، و هي الفترة التي ندمت عليها كثيرا ، فقد خسرت كثيرا ، مرت و الحمد لله ، لكن كيف لي أن أعوض ما فاتني من تنمية نفسي و عقلي ، عدت تدريجيا حتي أصبحت الآن نهم لا أشبع ، كأني أسابق الزمن ، قد يكون احساس بالذنب تجاه الفترة الغابرة ، و قد يكون الأمر أكبر من ذلك فقد تخطيت تلك الفترة من زمن ، أظن أن الأمر يرجع إلي نمو الكاتب الذي يسكن بداخلي ، و الذي كان يحاول أن يطفو علي سطح حياتي بين الحين و الحين ، حتي تَحَين الفرصة و فرض نفسه فرضا ، فالكاتب إن انقطع عن القراءة جف قلمه و تبلد عقله .
قد تتساءل الآن عزيزي القارئ و تقول : و أين الكلام عن الجهل ؟! ، أليس الجهل هو عنوان مقالك ؟! ، يحضرني الرد من القرءان الكريم في سورة البقرة :” قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ۖ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) ” ، أو في سورة هود :”إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)” ، فلا تتسرع عزيزي القارئ في استقراء و استنباط النتائج ، فالتسرع في الحكم علي شئ لم يتضح لك أمره كله هو نوع من الجهل ، كما أن استعجال النتائج جهل أيضا .
تري .. قد بدأنا الحديث في الجهل ، و الجهل أنواع و مستويات ، و لا يوجد عالِم و لا عليم سوي الله سبحانه و تعالي ، فما من بشريّ إلا و هو جاهل ، و لقد استعاذ نبينا محمد عليه الصلاة و السلام منه في دعائه حين الخروج من المنزل :” اللهم أعوذ بك أن أَضل أو أُضل أو أَزل أو أُزل أو أَظلم أو أُظلم أو أَجهل أو يُجهل عليّ ” .
إن ما دفعني عزيزي القارئ للكتابة في هذا الموضوع متقدمًا بتلك المقدمة السالفة هو أنني لاحظت نفسي منذ فترة قصيرة لا تتعدي الشهر ، لاحظت شعور غريب قد بدأ يتسرب بداخلي و يقلقني ، إذ بدأت أشعر أنني لم أقرأ بعد شيئا ، يا الله أشعر أني جاهل ، فما ألبث أن أنهي قراءة كتاب حتي أبدأ غيره في نفس اليوم ، أريد الاستزادة ، أقرأ منشورات علي صفحات الفيس بوك لبعض الكتاب و الصحفيين و الباحثين و أساتذة الجامعات المتخصصون في مجالات عدة ، بالتأكيد و بالطبع لن أحصي و لن أُلِم بشتي العلوم و مجالات المعرفة ، لكن هو شعور بالجهل و بتضائل حجم المعرفة و الاطلاع ، وجدتني أبحث في الجهل .
كان أول سؤال طرحته علي نفسي هو ما هو الجهل ؟ ، ثم هل الجهل مصطلح جامع شامل أم أن له مستويات و يمكن تقسيمه ؟ . طرحت سؤالي هذا و ذاك أول ما طرحت علي ابنتاي ، بالطبع بصيغة بسيطة و سهلة تناسب مرحلتهما السنية و الدراسية ، فالكبري بالصف السادس الابتدائي و الصغري بالصف الرابع بإحدي المدارس الحكومية علي فكرة ، كان اي هدف أولي و هو الحصول علي تعريف بسيط من تلاميذ بالمرحلة الابتدائية ، أجمعا علي أن الجهل هو من لا يعرف القراءة و الكتابة ، بعد حوار بسيط لتقريب المفهوم و المعني للمصطلح وصلا إلي أن الجاهل قد يكون دارس و حاصل علي شهادة ما إلا أنه جاهل معلومات عامة و لو بسيطة عن بلده مثلا ، شكرتهما علي اسهامهما الجليل ، كان هدفي الثاني إذًا هو الوقوف علي درجة و مستوي جهل الصغيرتان ، الحمد لله لا بأس فقد أجابا بما يرضيني و ما توقعته ، اطمأننت علي مستوي التعليم !! .
إذًا فقد حصلت علي تعريف مبدئي ، كما أن هناك أنواع للجهل . بالطرح العلمي كان الجهل ضد العلم و جهل الشئ أي لا يعرفه و الجاهل ضد العاقل ، و هو أيضا اعتقاد الشئ بخلاف ما هو عليه ، و إذا كان الانسان لا يعلم فهو جاهل بسيط ، أما من يعلم معلومة بخلاف الواقع أي خاطئة فهو جهل مركب .
بينما أنا أسطر هذه السطور عن تعريف الجهل و أنواعه ، يحضرني موقف خضته علي مدار شهر كامل من عام 2005 أي منذ سبعة عشر عاما ، ملخصه كالآتي ، استضفت أنا و أمي رحمة الله عليها في منزلنا زوجة أخي ، قادمة من بلدها إلي مصر بغرض العلاج و اجراء بعض الفحوصات الخاصة بالأسنان ، ذلك لجودة الخدمة الطبية في هذا المجال و انخفاض تكاليفه بالمقارنة بتكاليف علاج الأسنان بالولايات المتحدة الأمريكية ، فقد كانت الضيفة أمريكية الجنسية ذات أقول ايرلندية . كنت في استقبالها في مطار القاهرة الدولي أنا و والدتي ، كان موعد الوصول بعد منتصف الليل بساعة أو اثنتين علي ما أتذكر ، كان بصحبتنا صديق لي بسيارة ملاكي ماركة ميتسوبيشي لانسر حديثة موديل العام علي ما أظن ، عدنا إلي الاسكندرية في نفس الليلة بعد أن تناولنا وجبة العشاء بأحد مطاعم شارع جامعة الدول العربية القريب من محور ٢٦ يوليو من ثم الطريق الصحراوي حيث توقفنا بماستر علي الطريق لبعض الوقت ، ثم كان الوصول إلي الاسكندرية مع خيوط و نسمات الصباح الجميل ، فقد كان الوقت ربيعًا علي ما أتذكر ، مر صديقي في طريقه إلي المنزل علي كورنيش البحر حتي يكون البحر أول ما يقع عليه نظرها بالاسكندرية .
هذه السويعات القليلة كانت كفيلة حتي أعرف مدي جهل تلك المواطنة الأمريكية ذات النيف و ثلاثين سنة من العمر ، تمثل لي جهلها في معلوماتها التي تكاد تكون معدومة عن مصر جملة و تفصيلا ، بداية بمستوي صالة الوصول رقم ٣ بمطار القاهرة الدولي معماريا و خدميا و مستوي النظافة المحترم ، ثم السيارة الميتسوبيشي التي أقلتنا إلي الاسكندرية ، فقد كانت تتوقع أنها سوف تسافر من القاهرة إلي الاسكندرية علي ظهر جمل !! ، أو علي أعلي تقدير في سيارة قديمة متهالكة ، ثم أبهرها و سحرها ليل القاهرة و نيل القاهرة ، انبهرت بحجم المدينة و اتساعها و حركة السير في شوارعها التي لا تفرغ علي مدار ال٢٤ ساعة ، أضواء المراكب السياحية في النيل ، ضخامة و فخامة الفنادق المطلة علي النيل ذات الأسماء المعروفة عالميا ، مثل شيراتون و ماريوت و الفورسيزون ، و المطعم الذي تناولنا فيه العشاء و الذي اختاره صديقي بعناية حتي يبرز كرم الضيافة و المستوي الراقي لأحد مطاعم العاصمة ، لقد كانت القاهرة قاهرة بالفعل ، قهرتها في معلوماتها التي تربت عليها و استقتها من تعليم و اعلام الولايات المتحدة الأمريكية .
ثم جذبها طريق القاهرة الاسكندرية الصحراوي ليلا ، حتي وصلت إلي ماستر فجرًا لم تكن لتصدق ما تري عينيها ، أتدري عن ماذا سألتني عزيزي القارئ ؟! ، أين الجمال و أين الخيام و الماعز و الغنم ؟! ، هذا ما جاءت به إلي مصر ، كل معلوماتها عن مصر أنها صحراء جرداء يعيش أهلها في الخيام و يركبون الجمال و الحمير و البغال ، تخيل مواطنة أمريكية في القرن ال٢١ تقف معلوماتها عن العالم الخارجي بالنسبة لها عند هذا الحد ، لا معرفة لا اطلاع و لا ثقافة ، لك أن تتخيل عزيزي القارئ أحداث الشهر الذي أمضته في مصر ، غادرت مصر انسانة جديدة علي الأقل في معلوماتها عن مصر ، فقد قمنا بزيارات كثيرة لأماكن عديدة و عدنا إلي القاهرة نهارًا في زيارة للأهرامات و حديقة الحيوان و وسط البلد و منطقة الحسين و خان الخاليلي ، و أكملت علاج أسنانها علي أحسن ما يكون بسعر رغم أنه عالي بالنسبة لمصر إلا أن تكاليف الشهر الذي أمضته في مصر تعادل تكاليف علاج أسنانها بأمريكا !!
قبل أن أنتقل إلي النقطة التالية يحضرني حوار دار بيني و بينها أري في اضافته توضيح لمصدر جهلها و سبب مجيئها إلي مصر ، بينما كنا نجلس في منزلنا جلسة عائلية في انتظار وجبة الغداء مما لذ و طاب من طبخ أمي رحمها الله ، كنت أتنقل بين المحطات الفضائية المصرية بالريموت كنترول باحثًا عن فيلم مصري قديم أبيض و أسود قاصدًا بذلك بيان عظمة مصر فنيًا و الفرق بين الماضي و الحاضر في مقارنة لبيان مدي التحضر الذي طال مصر ، إذا بفيلم ” قنديل أم هاشم ” للفنان الراحل شكري سرحان ، ما أن وقعت عيناها عليه حتي صاحت :” نعم هذا أعرفه ، لقد شاهدت أجزاء منه ، يقولون أن هذه هي الحياة في مصر الآن ، هذه هي مصر التي يصورها لنا الاعلام في أمريكا ” ، ملخص الفيلم جهل شعب و طبيب ماهر !! .
أعتذر علي الإطالة ، و لو أنني اختصرت كثيرًا من أحداث هذه الزيارة ، لعل أهم النقاط التي نستخلصها مما قصصت أن هناك أنواع أخري من الجهل ، بالتحديد نوعان ، الأول عام و الثاني خاص ، أما العام فهو جهل نسبة كبيرة من أفراد شعب ما ، أو بالأحري تجهيل شعب عن عمد ، عن طريق بث معلومات خاطئة عن موضوع ما أو دولة ما ، و احاطة المتلقي و محاصرته بكم مغلوط من المعلومات حتي تصير تلك المعلومات المغلوطة هي أساس معرفته و ثقافته عن اقتناع تام بأنه علي صواب ، حتي يتلقي الصدمة الكبري و تهتز ثقته في اعلامه و حكومته و كل ما يقدم له إعلاميًا كما حدث لتلك المواطنة الأمريكية ، فقد صدمت صدمة العمر عزيزي القارئ .
أما الجهل الخاص فهو جهل الفرد الواحد أو جماعة ما بشكل منفرد عن المجتمع و البيئة المحيطة سواء بالفرد أو الجماعة الصغيرة ، بمعني أن يصر الفرد الواحد علي صحة معلوماته و نفاذ بصيرته و رجاحة تفكيره أمام كم من المعارضين له محاولين اقناعه أنه جانبه الصواب ، إلا أنه يصر علي جهله ، أو جهلها كجماعة تري في نفسها الصواب و ما عداها فهو خاطئ لا محالة .
و لمّا كان الانسان مسئول عن مستوي جهله و يعتب عليه في عدم الأخذ بأسباب المعرفة و الثقافة ، و لو القليل منها ، فكما أسلفنا ما من أحد علي الأرض مهما بلغ من العلم و الثقافة و المعرفة إلا و هو جاهل ، فإن هذا الانسان قد يكون ضحية لعملية تجهيل كبري عن قصد ، كما أوردنا في قصة المواطنة الأمريكية التي كانت ضحية اعلام متسلط فرض الجهل علي غالبية الشعب بمعلومات ضئيلة مغلوطة شحيحة ، في حين صدر لنا نحن العرب أو الشرق صورة مضخمة و مبالغ فيها عن نفسه و عن قدراته و ايجابياته و ديمقراطيته و و و …
هذا و إذا كان لسياسة الدولة دور فعال في تجهيل و تقزيم معرفة و ثقافة الشعب بما يعد سبب رئيسي للجهل العام ، فإن التخلف عن التعلم و قلة البحث و الاطلاع و غياب الحاجة للتعلم ، و الانقطاع المبكر عن التعليم و عدم الاختلاط في المجتمع و تبادل الآراء و المعلومات ، و غياب الحقيقة مع معرفة الأمور علي خلاف حقيقتها ، كل ذلك يعد من أهم أسباب الجهل علي المستوي الفردي .
أخيرًا و كما تري فإن الموضوع طويل و متعدد النقاط ، و كل نقطة فيه تحتاج إلي مقال قائم بذاته ، أي سلسلة مقالات تحت عنوان الجهل نختمها عزيزي القارئ بأهم نقطة و هي كيفية علاج الجهل ، إذا فرضنا أنه مرض عضال وجب علينا علاجه ، فإن الفرد المريض أو الشعب المريض لن يكون منتجًا أو عنصر فعال في تقدمه و تقدم من حوله ، و لن يكون إلا ترس أصابه العطل في ماكينة الانتاج و النمو و التطور ، و إذا عدنا إلي مسببات الجهل سبب سبب و تناولناه بالتحليل و التدقيق لوجدنا الحل و العلاج كامن فيه لا يحتاج سوي طبيب ماهر يستخلصه بعناية و يوظفه تمام التوظيف في علاج الجاهل و المجهول عليه .
و لعلي أختم مقالي هذا ببعض ما قيل في الجهل ، فهذا مثل عربي يقول :”رأس مالك علمك و عدوك جهلك ” ، و هذا شعر للإمام الشافعي :”أعرض عن الجاهل السفيه فكل ما قال فيه .. ما ضر بحر الفرات يوما إن خاض بعض الكلاب فيه ” ، و هذه عبارة مقتبسة لميخائيل نعيمة :”كم من ناس صرفوا العمر في اتقان فن الكتابة ليذيعوا جهلهم لا غيرا ” ، و أخيرًا هذا شعر لإيليا أبو ماضي :”لا تطلبن محبة من جاهل .. المرء ليس يحب حتى يفهما .. و ارفق بأبناء الغباء كأنهم مرضي .. فإن الجهل شئ كالعمي ” .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق