مقال

المهمة ليست سرية ( دفعة ٨٧ )

بقلم عاصم صبحي

 

كانت الساعة الخامسة فجرًا حين استيقظ الكاتب علي صوت رنين جرس المنبه حسب الموعد الذي حدده قبل نومه ، نهض نشيطًا علي غير العادة و علي غير ميعاد استيقاظه المتأخر نوعًا ما ، إلا أن هناك ما استدعي هذا التبكير .
لكاتبنا طقوس صباحية لا يحيد عنها و لا يغفل طقس واحد منها ، صلي فجره ، سبٓح ، دعا الله و قرأ ورده و وهب ما قرأه علي أرواح أمواته و أموات دفعته ” أحمد محمود ، أحمد الفقي ، فؤاد دميان و ناجي شنوده ” ، ثم قام لتناول وجبة الفطار المكونة من عسل النحل و زيت الزيتون و ثلاث حبات من التمر ، ثم أعد مشروبه المفضل المُعين من بعد الله سبحانه و تعالي علي قضاء يومه هذا المميز و غيره من الأيام علي أية حال ، القهوة ذات الرائحة النفاذة المنبعثة بداية من علبة البن الغامق إلي أن يصب المشروب من الكنكة في الكوب ثم يضع عليه بطرف الملعقة الصغيرة القليل من القرفة الناعمة الحلوة ، مما يضفي علي المشروب رائحة أكثر نفاذًا إلي المخ و نكهة جذابة مميزة متجددة ليس له أن يمل منها ، و هو في اعتقاده أن من آداب شرب القهوة استنشاق رائحتها ، تلك الرائحة التي تداعب خلايا رأسه و تحثه علي ارتشاف مشروبه رشفة رشفة في هدوء و تمعن ، كل ذلك بصحبة السيجارة المميزة التي يقوم باعدادها بنفسه بأصابع يديه الطويلة النحيفة و التي طالما شُبهت بأصابع الجراح ، يُعد السيجارة خير اعداد تشعر إن لاحظته كأنك بالفعل أمام طبيب جراح يُجري عملية دقيقة بأصابع معقمة لا تستغرق تلك العملية الدقيقة أكثر من دقيقتين .
ختم الكاتب طقوسه بالقهوة و السيجارة و قد مر من الوقت ساعة و نصف ، بدأ يطالع وسائل التواصل الاجتماعي بشغف و اهتمام بالغ علي غير العادة كمن ينتظر أو يبحث عن شئ ما ، حتي مرت نصف ساعة حين وصلته أولي الرسائل المنتظرة ، لم تتأخر و لكنه كان مبكرًا حتي يكون في كامل استعداده لتلقي تلك الرسائل ، تعددت مصادر الرسائل لكنها في اطار واحد حاملة أخبار هدف واحد قد اجتمع عليه أطراف عدة .
الرسالة الأولي كانت من أمير البحار كان محتواها : ” انتوا فين ؟! وصلتوا لفين ؟؟ ” ، ثم توالت الرسائل علي تطبيق الواتس آب من مختلف الأطراف ، إذًا فهذا هو يوم المهمة التي أُتفق عليها و أُعد لها العدة منذ شهرين .
ليست سهلة سهولة إعداد فنجان شاي و ليست صعبة صعوبة سلخ خروف مذبوح ، إلا أنها تستحق أن يُعد لها بكل حرص حتي لا يغفل المعدون شئ علي الإطلاق ، فلا شئ متروك للصدفة ، فهم مجموعة من الرجال الصفوة المدربة أصحاب الخبرة في شتي مجالات و ميادين العمل و المعرفة ، و أصحاب سطوة و نفوذ و شبكة علاقات علي أعلي مستوي يخشي منها الكثيرون .
كلٌ حدد موقعه و كل عضو تحرك في موعده المخصص له و الذي أُختير بعناية فائقة مراعيًا بعد المسافات و موقع كل عضو و ذلك حتي تكون ساعة اللقاء في مكان اللقاء واحدة للكل ، عدد الأعضاء سر لا يذاع و لا يعرف للعامة حتي ساعة اللقاء ، علي أن لا تخلو المجموعة تحت أي ظرف مهما كان من جميع الأفرع ، أمني ، طبي ، أكاديمي ، اقتصادي ، هندسي ، تكنولوچي ، تجاري و أدبي ، لابد من وجود هذه التشكيلة و التركيبة لإتمام المهمة بنجاح .
تحرك بعض أفراد المجموعة من القاهرة و كانوا أول المتحركين في اتجاه نقطة الإلتقاء حسب ما أفادت الرسائل ، مولانا و المستشار و الجنرال و الصيدلي ، تلك بعض الأسماء الحركية لبعض أفراد المجموعة فلكلٍ اسم حركي ، هؤلاء علي درجة كبيرة من الأهمية كما هو واضح من أسمائهم ، قد لا أذكر أسماء أخري و ذلك مراعاة مني لسرية بعض الأسماء و حساسية مراكزهم و ليس لغفلة مني أو انتقاص من شأنهم فالجميع علي درجة واحدة من الأهمية .
تحرك الكاتب و غادر منزله في تمام العاشرة حسب الموعد المحدد بصحبة الطبيب و المهندس و المُوجه و المحاسب في سيارة واحدة ، متجهون جميعا إلي الكيلو ٤٨ باحدي الطرق الساحلية حيث تقع احدي القري السياحية نقطة الالتقاء .
بداية مطمئنة و مميزة ليوم طويل ، سيارة مريحة حديثة ، صحبة اكثر راحة و تميز ، ابتسامة مشرقة شروق الشمس الساطعة في يوم دافئ يعطي انطباع أكثر من رائع و ينبئ عن طقس ملائم تمامًا لمثل هذه المهام ، أحاديث ودودة مرحة لا تخلو من روح الفكاهة ، سائق السيارة المحاسب الهادئ الرصين الخلوق ، رصين و هادئ حتي في قيادته للسيارة علي الطريق مما ساعد علي بث روح الطمأنينة و خلق حالة من الاسترخاء للصحبة ، خاصة و أن الطبيب يقرأ القرءان بالتحديد سورة الكهف فاليوم يوم الجمعه ، بارك الله له و فيه .
المهندس المهاجر الذي حضر من مهجره لقضاء عطلته الصيفية السنوية و التي كان مقررًا لها شهر فإذا هي تمتد لثلاثة أشهر ، و كأن القدر قد كتب له حضور هذه المهمة التي طالما سمع عن مهام مثلها سابقة و تمني أن يشارك في احداها و ها هو ذا ، أما المُوجه فذاك بمجرد أن تتطلع في وجهه تري الطيبة و قد نضحت علي قسمات وجهه و طلت من نظرات عينيه و جَملَت ابتسامته و سمعت في صوته إذا تكلم تغريد عصفور باريسي يتخذ من الشانزيليزيه عُش له .
يتابع الطبيب بعد أن فرغ من قراءة القرءان أخبار باقي أفراد و أعضاء المهمة عبر الرسائل علي الواتس آب ، كما يتابع خط السير مع المحاسب و يوجهه علي الطريق فهو أكثر حنكة و هو بمثابة قائد تلك العصبة ، أما الكاتب فهو إما في حديث مع أحد أفراد الصحبة و إما يطل من نافذة السيارة متأملًا الطريق و مبانيه و التغيرات التي طرأت علي جانبيه ، بإختصار حالة تأمل عامة .
ها هو علم مصر يرفرف علي مدخل القرية يمين الطريق و هو طريق الاسكندرية مرسي مطروح الساحلي ، فنحن بصدد كشف الأسرار الآن رويدًا رويدا ، رمزية علم مصر هذه تدل علي أن القرية مؤمنة تأمين تام ” ادخلوها بسلام ” ، حرس البوابة في الاستقبال بمجرد أن تنطق بكلمة السر تفتح البوابة و تمر ، إذًا نحن بالداخل الآن ، كل شئ هادئ ، اجراءات التأمين واضحة لا تخطئها عين مدربة ، و كانت أعلي درجة من درجات التأمين علي بوابة الڤيللا التي سوف تحتضن هذا الاجتماع ، و كان هذا النوع من التأمين حديث تمامًا ، فعلي البوابة يقبع ” Cooper “ الكلب المدرب علي أعلي و أحدث طرق التأمين الشخصي ، يسمح بمرور الأعضاء فقط حتي و إن كانت هذه أول مرة يراهم ، لكن تلك الميزة السرية في تدريبه تسمح له بالتعرف علي الأعضاء دون غيرهم ، و لو كنت من غيرهم فأنت وجبة شهية له ، عاش Cooper و صاحبه و مدربه .
بعض السيارات مركونة حول سور الڤيللا مما يدل علي وصول بعض الأعضاء و من السهل التعرف علي الوصول من ماركات السيارات الموجودة ، إذ يكفي نظرة سريعة متفحصة لتلك السيارات للتعرف علي أصحابها ، إذًا فنحن نعرف من بالداخل لا مفاجأت ، بل و التعرف علي من كان برفقتهم .
عدد لا بأس به قد وصل بسلامة الله ، استقبال حار ، ترحيب مفعم بالحب و الود ، مأدبة الفطار قد نصبت نصبًا ، عامرة بما لذ و طاب من الفول بجميع خلطاته و الفلافل ( اسكندراني ) و المخللات ، و ما هي إلا دقائق معدودة حتي حلت السيارات مقلة باقي أفراد المجموعة تباعا ، بنفس الود و الترحاب قوبلوا ، و علي المأدبة سيطروا ، لم يستطع الكاتب المقاومة فكان نصيبه منها نصف رغيف بلدي محشو بالقليل من الفول أبو خلطة و كفي .
ثم يحين دور المشروبات الساخنة بأنواعها المختلفة ، كان الكاتب مستعد بالبن الخاص به و الكنكة أيضًا حيث كانا أول ما وضع في حقيبته من لوازم و مستلزمات مثل هذه المهام ، عرض اعداد القهوة لمن يطلب فكان المستشار أول المجيبين ، فما أن شرع الكاتب في اعدادها لاحظ أن المستشار آثر القهوة الجاهزة التي كان المُوجه أعدها مسبقًا في بيته ، فما كان من الكاتب إلا أن أعد مشروبه و فقط ، كان ذلك علي استعجال فلقد اقترب موعد صلاة الجمعة .
نسيج الشعب المصري واحد أينما ذهبت و حللت ، فالمسلم و المسيحي هما المكون الرئيسي لهذا النسيج المتين الغير قابل للقطع أو الخرق.. نسيج لا يبلي ، ذهب بعض أفراد المجموعة لتأدية فريضة صلاة الجمعة بينما مكث بالڤيللا البعض الآخر في انتظار فروغ الصلاة .
لم تصدر الأوامر بعد بالتحرك لأي مهمة و لم يتبين أحد مضمونها أو أي معلومة عنها ، إذًا فدعنا نمرح و نستمتع حتي نستبين الأمر ، كان الطقس غاية في الروعة ، الشمس ساطعة دافئة لا رياح مما يدل علي أن البحر هادئ ، سرعان ما كانت الغالبية علي الشاطئ ، يا له من منظر بديع فالبحر ساكن كأنه حمام سباحة و الشاطئ خال إلا من أحد الصيادين ، المياه دافئة ، كل شئ كأنه أُعد لاستقبال تلك الصحبة المميزة ، ضحكات تعالت فالكاتب خفيف الظل عاشق المرح أضفي نوع من البهجة علي الجمع ، و كأن أيام الصبا قد عادت تراها في الملامح التي قد تبدلت بالفعل و بدا الجميع أصغر سنًا ، ذكريات تستعاد و ذكريات تكتب الآن بل و وثقث بكاميرا الباشمهندس ، يا لها من سعادة و صفاء نفس كصفاء مياه البحر الذي شرع الدكتور في تعقيمه … شكرًا يا دكتور !!
الوقت يمضي سريعًا ، عاد السباحون إلي الڤيللا جائعون يتسائلون عن المهمة ماذا تكون ، ما أن بدلوا ثيابهم بعد استحمامهم حتي فوجئوا بالچنتلمان هذا العضو الجديد القديم ، جديد كونه حديث العهد بتلك التجمعات الطارئة و المهام الصعبة ، هو چنتلمان قولًا و فعلًا و مظهرًا ، وُكِل له مهمة نصب خيمة خاصة بالعمليات و ذلك علي سبيل التجربة للتأكد و الوقوف علي جاهزيتها ، إلا أنه فوجئ بعمود الخيمة الرئيس به عطل مفاجئ مما يؤثر بالسلب علي انتصاب الخيمة ، أبلغهم بذلك العطل الفني و التقني ، أبلغهم أن وجود الشرخ في العمود يتطلب اصلاحه بعض الوقت و لا سبيل إلا اصلاحه فورًا فليس هناك بديل لتلك الخيمة الغير منتصبة ، شرع بالفعل في العمل علي مداواة العمود بما لديه من خبرة ، و ما هي إلا ساعة حتي كان العمود منتصبًا كذلك الخيمة معلنًا نجاح العملية ، هنا تسائل الجمع عن كيفية اصلاحه ، كان العلاج بسيط فالچنتلمان لديه محلول خاص لاصلاح الشروخ أطلق عليه ” الثور الأحمر ” مستعينًا بنصف قالب من الطوب الأحمر قام بتذويبه في المحلول ثم طلي العمود بهذا المزيج فعادت له قوته و صلابته مما كان له الأثر الطيب في نفوس الجمع .. عاش الچنتلمان !
اجتمعوا علي مأدبة الغداء نهمون ، ما لذ و طاب من الكباب و الكفتة و الأرز بالخلطة و الدجاج المشوي بجانب السلطات و المقبلات بالاضافة للممبار ، و الحلويات الشرقية و الغربية .. كُل و اشكر !!
حالة استرخاء عامة مع المشروبات المختلفة منها الساخن و منها البارد ، أحاديث هنا و هناك ، ثنائية أو أكثر ، ضحكات و قفشات و نكات و كاميرا تسجل و تلتقط أحلي الذكريات التي اعتاد أعضاء دفعة ٨٧ سان مارك تسجيلها سنويًا ، في يوم اعتادوه فبالأمس القريب منذ عام بالتمام و الكمال كانت ” جمعة الأنتخة ” ، ذكرياتها و أحداثها لم تنسي بعد ، و ها هو اليوم الذي أعدوا له منذ شهرين ليكون يوم تجمعهم المنشود ، عاشوه بصباهم و شبابهم فقد خلعوا ثوب الهموم الشخصية الحياتية علي بوابة قرية أمراء البحار بالساحل الشمالي ، سجلوا ذكريات جديدة و حديثة و متجددة ، سجلوا مشاعر حب صافية صفاء سماء يومهم و صفاء مياه البحر الذي احتضنهم شاهدًا علي براءتهم و حبهم الأخوي .
مهمتهم الغير سرية هي حرصهم التام علي دوام التواصل و الترابط و التكافل فيما بينهم ، فهم رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه من دوام المحبة الانسانية لله و في الله ، سند لبعضهم البعض ، يد واحدة في السراء و الضراء ، قل عليهم آخر الرجال المحترمين ..
سجل لهم الكاتب يومهم هذا كالعادة ، فهم الآن في شوق و لهفة لقراءة أحداث مهمتهم الغير سرية .. دمتم بخير و صحة و سلام و إلي يوم آخر بإذن الله تعالي .
تمت .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق