مقال

ماذا لو ؟!

بقلم عاصم صبحي

 ماذا لو ؟!

كم من أيام بل و شهور تأرق فيها ذهني بسبب هذا الموضوع ، فبين الحين و الحين يقفز من بين جمع غفير من زملائه ليفرض نفسه عليهم و يحتل الصدارة في مشهد عنتري ، لا يستل سيفًا مشهورًا لفرض سطوته ، لكنه يتسلح بجعبة متفردًا بها علي سائر زملائه من المواضيع ، فما من موضوع إلا و هو قائم بذاته ، قد يعرج بك حين سرده إلي فرعية أو منحني يمر بنا عبر نقطة توضيحية ، أو اشارة تستوقفنا للحظات نتأمل من خلالها عبر النافذة فيما نصادفه في دربه – أي الموضوع – ، لكن أن تأتي حاملًا جعبة بين زملائك فهي بكل تأكيد جواز مرورك الآمن ، و افساح الطريق و اعداده و تهيئته و الاصطفاف حولك لتطرح علي العيان و تفصح عما في جعبتك .
ماذا لو ؟! ، سؤال مطاطي ، خداع ، يحمل بين طياته أبواب عدة ، لكل باب طريق متفرد يأخذنا إلي منحي مختلف من مناحي الحياة ، و يبدو أن لا مجال للاختيار ، ففي لحظة تبلوره يكون قد فرض عليك اجتياز الباب الذي تفضل و فتحه أمام مخيلتك ، قد يقع نظرك علي الأبواب المجاورة متطلعًا لعنوان قد يغير الوجهة لكن دون جدوي ، فكان عنوان طريقي ماذا لو كنت رئيس جمهورية ؟!
هذا العنوان كان بمثابة ” رش القفص ” في جعبة ماذا لو .. ؟! ، لكن من أين أتي الموضوع الرئيسي ؟! ، وراء كل موضوع يفرض نفسه كتابةً ، أو يستحوذ علي مساحة ذهنية و فترة زمنية عريضة في التفكير سبب و قد تكون قصة ، و لموضوعنا هذا قصة هي لُبُه ، فتعال معي أقص عليك القصص و نكتشف الدرب سويا .
كعادتي العائلية التي توارثتها أبًا عن جد أتناول وجبة الغداء في حضور كافة أفراد العائلة ، مجتمعون حول مائدة واحدة ، أعشق تلك اللمة العائلية و أحرص عليها دومًا ، فهي بالنسبة لي كالوعاء الذي لا ينضب معينه من العادات و التقاليد و المناقشات الحرة ، في مثل هذه اللمات تطرح الأسئلة بين أطراف المجتمعين و تدور المناقشات المرحة و الجادة أحيانًا ، و الاطلاع علي أحوال و مستجدات الأحداث الأسرية ، و لا مانع من أن يكون التلفاز في الخلفية ، سواء أكان يعرض فيلم مصري قديم أبيض و أسود ، أو يعرض آخر مستجدات الأخبار و الأحداث السياسية ، كانت نشرة الأخبار علي احدي القنوات الفضائية الاخبارية المصرية حاضرة للمتنا هذه ، يفتتح السيد الرئيس و يتابع بعض المشروعات باحدي المحافظات ، و بينما أنا أستمع لحوار دار بين سيادته و بين أحد المواطنين قاطني تلك المحافظة و الذي التقاه مصادفة في طريقه ! ، تتبرع صغيرتي ” مريم ” ذات التسع سنوات بطرح موضوعنا هذا سيدي الفاضل ، في صيغة سؤال مباغت برئ قائلة :” بابا .. انت لو كنت رئيس ، كنت هتعمل ايه ؟! ” .
راق لي السؤال و أوليته اهتمام ، فبعقل و ذهن الكاتب استشعرت و استقرأت موضوع قد سطع و لمع عنوانه علي الفور في ذهني ، استزدت فسألت :” أعمل ايه في ايه ؟! ” ، فإذا بطرح ذي ثلاث شعب ، قالت بعد لحظات من التفكير :” يعني هتهتم بالفقرا و الغلابة اللي في الشارع قاعدين يشحتوا ؟! ، طيب هتقعدنا في قصر ولا في بيتنا عادي ؟! ، و هتعين علينا حراسة و احنا رايحين و جايين ولا هتسيبنا براحتنا ؟! ، و كنت هتحارب أعداء مصر و تخلي مصر قوية ؟! ” .
كيف الحال عزيزي القارئ ؟! ، موضوع كامل متكامل بعنوانه و يحوي في طياته الكثير و الكثير ، و جدير بالكتابة لكن بشرط ، حُسن التفكير و التدبر و التأني في الرد ، ليس الرد علي الطفلة و إنما الرد علي نفسي التي اتخذت من تلك الأسئلة أطروحة واجبة المناقشة ، بينما لم يتجاوز ردي علي طفلتي فترة تناول الغداء ، فقد طمأنتها و أكدت لها اهتمامي بالفقراء و المعدمين ، فقد اعتادت أن تراني أساعد بفضل الله و كرمه و أُحسن إلي الفقراء ، و أحثها هي و أختها علي انتهاج هذا المنهج و الحمد لله ، أما فيما يخص إقامة الأسرة و تعيين حراسة عليها ، أظهرت لها حبي و تمسكي بمنزلنا هذا ، فهو الأساس و إن كان إيجار قديم ! ، أما عدا ذلك فهي شكليات لابد منها لزوم المنصب ، لن تحوي ذكريات و حب و دفء ، فقد لا نجتمع سويا هكذا مثلما نجتمع في بيتنا هذا ، إلا أنها لابد منها ، و طمأنتها علي حرية تحركاتها و خصوصيتها تلك المفعوصة ، لكن تحت رعاية و تأمين من بعيد لبعيد .
أما قوة مصر و ازدهارها و محاربة أعدائها ، فأكدت علي حرصي علي أن تكون مصر قوية غنية فتية ، و هي تعلم مدي حبي لبلدي ، أما عن الحرب ، فقلت لها أن هذا أمر بيد الله ، وقتما استلزم الأمر ذلك فإننا لها ، طالما أخذنا بالأسباب ، أسباب القوة و العلم .
أما و قد عرضت للقصة ملهمتي فالأحرى الآن أن نعرض لما تمخض عنه فكري ، لم أكن يومًا قائدًا بكامل رغبتي ، فلم أسع يومًا أن أكون قائدًا ، لكني كنت مستشارًا أمينًا حكيمًا ، أشعر دائما بالأمان في المساحة المظللة ، أتحرك فيها بمنتهي الأريحية ، لكن متي فرض عليّ الأمر الواقع كنت لها بفضل من الله و رعايته ، فالتكليف من عند الله ، فمتي كلف كان سبحانه و تعالي مهيئًا و سندًا و عونًا و مُسخرًا ، فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها .
من هذا المنطلق اعتبرت الأمر تكليفًا ، و أخذته مأخذ الجد ، واضعًا أمامي سؤال ابنتي ذو الثلاث شعب ، اقتصادي متمثلًا في تحسين أحوال المصريين المادية ، اجتماعي بصفة خاصة متمثلًا في الوضع الاجتماعي الخاص بالأسرة ، و الذي يجب أن يعكس بالايجاب الوضع الاجتماعي العام للبلاد ، أمني متمثلًا في الحفاظ أمن و استقرار مصر و الذود عن مصالحها بالقوة إذا تطلب الأمر .
ساق لي القدر في قراءاتي نموذجين لشخصيتين حكما في ملك الله باذنه ، الشخصية الأولي كانت عبقرية من عبقريات الكاتب الراحل الأستاذ عباس العقاد و هو الصِدّيق أبو بكر ، أما الشخصية الثانية فهي عبقرية ثانية لكن ليست من عبقريات العقاد ، هو محمد علي باشا متمثلًا في كتاب ” عصر محمد علي ” للقيمة و القامة الراحل عبد الرحمن الرافعي ، كانتا – الشخصيتان – بالنسبة لي بمثابة القدوة و المثال المحتذي ، فالأول رضي الله عنه هو الرجل الثاني بعد رسول الله صلي الله عليه و سلم ، الثاني في صحبة حبيبه و حبيبي رسول الله ، الثاني دون أن يكون في الظل ، لكنه الصاحب المقرب الصَديق الصِدّيق صاحب المشورة إذا اشتور .
آلت إليه رضي الله عنه الخلافة وفق حكمة إلهية و رؤية نبوية شريفة ، حيث اقتضت و كما جاء في كتاب عبقرية الصِدّيق :” و مصلحة المسلمين في ولايته راجحة في كل حساب ، لأن المسلمين كانوا يومئذ أحوج إلي عهد يكون امتدادًا لعهد النبي حتي يحين وقت التوسيع و التصرف ، و أحوج إلي ألفة غير مخشية و لا منفوسة تعوضهم من طاعتهم للنبي بتعاونهم بينهم علي النصيحة و المودة و كل أولئك ميسور لأبي بكر قبل تيسره لغيره من جلة الصحابة الأقربين .”
و لعلي موضحًا أمرًا ، لم يكن اهتمامي بشخصية الصِدّيق و الاعتداد بها كقدوة بغرض احلال مفهوم الخلافة و احيائه ، فإن هذا المفهوم لم يعد احيائه ذا جدوي علي الاطلاق ، نظرًا لعدة عوامل تتمثل في القومية العربية و الهوية الاسلامية و شخصية كل دولة عربية كانت أو اسلامية علي حدا ، فهذا موضوع آخر ليس مجاله هنا ، و إنما جاء الصِدّيق قدوة نظرًا لشخصيته الفريدة : ” فكان أليفًا ودودًا حسن المعاشرة ، و كان مطبوعًا علي أفضل الصفات التي تتألف له الناس فيألفونه ، و منها التواضع ، و لين الجانب .. و مع هذه المودة و هذه الألفة كانت فيه حدة يغالبها ، و لا يستعصي عليه أن يكبح جماحها ، و وصف بها نفسه و وصفه بها أقرب الناس إليه و أصدقهم في وصفه . فقال في خطبة من أوائل خطبه بعد مبايعته : اعلموا أن لي شيطانًا يعتريني فإذا رأيتموني غضبت فاجتنبوني ..” كما ورد حرفيًا في العبقرية ، و لعل هذا بعض من مجمل صفاته التي أوردها مفصلا الكاتب الكبير عباس العقاد ، مما صادف هذا البعض تشابه كبير في طبائع و سمات شخصيتي ، و رجح شخصية الصِدّيق علي شخصية الفاروق عمر رضي الله عنه التي قرأت عبقريته أيضًا .
” الديمقراطية – و لا ريب – هي أقرب النظم إلي نظام الحكم في عهد الصِدّيق .. و لا توصف بالديمقراطية علي المعني الذي نفهمه من هذه الكلمة في هذه الأيام ، و لكن من المحقق أن الحكومة الاسلامية علي النحو الذي جاء به القرءان الكريم و اتفق عليه المسلمون ” العبقرية ، هكذا كان نظام حكمه رضي الله عنه ، لم يحيد عن شرع الله و سنة رسوله عليه الصلاة و السلام ، و لقد استهل حكمه بحرب لا هوادة فيها ، ظهر خلالها الجانب القوي الصلب من شخصيته و كان ذلك من منطلق خوفه علي دين الله و دفاعًا عنه بلا هوادة و لا رحمة ، فالداهية صاحب المزاج العصبي كريم النزعات و الطوايا لا تأخذه رحمة فيمن خالف و ارتد عن دين الله .
أما الصِدّيق في بيته ، فما خلصت إليه أنه رضي الله عنه كان رجل بيت من منطلق شعوره بالواجب و الغبطة في القرابة و مودة الرحم و نعمة الألفة و المصاحبة ، و يكفيه فخر أنه والد عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين زوج رسول الله عليه الصلاة و السلام ، و أسماء رضي الله عنها ذات النطاقين زوج الزبير بن العوام .
” فما عسي أن يقول القائل و أن يثني المثني علي بيت ينجب هاتين العقيلتين الكريمتين ، لقد كان لأبي بكر أبناء من خيرة الرجال . و لكن البيت تدل عليه بناته قبل أن يدل عليه أبنائه ، لأن الفضل في نشأتهن كلها للبيت ، من حيث يحسب لغير البيت الفضل في نشأة الأبناء .” العبقرية ..
كان هذا موجز شديد لشخصية واحد من أهم من حكم في ملك الله بإذنه ، حاكم لا يختلف عليه اثنان ممن يفترض فيهم رجاحة العقل و حكمة الرأي و حيادية التوجه ، فقد كان خير خلف لأعظم سلف ، فاستحق أن يكون خير قدوة يقتدي بها لمن أراد الصلاح و الاصلاح ، لا يخشي في الله لومة لائم .
أما عن محمد علي باشا ، الشخصية القدوة الثانية بالنسبة لي ، بادئ ذي بدء يجب أن تعلم عزيزي القارئ أن الباشا كان شبه أُمي عندما تولي عرش مصر ، مما كان له الأثر الأكبر في تعليم نفسه و من ثم الاهتمام بالتعليم في مصر علي نحو لم يسبق له مثيل ممن حكموا مصر قبله و فيما يبدو بعده !! .
شخصية غريبة ترهق بلا شك الباحث و الدارس فيها و في سياسته ، شديد الذكاء ، داهية ، شديد الوعي بما يتخذ من قرارات أو يخطط من سياسات .
هذا الجندي البسيط متواضع النشأة تدرج إلي أن ارتقي عرش مصر ، فسما بلا شك بأعماله إلي مصاف عظماء الرجال ، أسس ملكا عريضًا ، قارع دولًا كبارًا ، و لعل بقاء أثره خالدًا طوال هذه السنين و إلي ما شاء الله يدل علي مبلغ عبقريته ، و مما لا شك فيه أن العناية الإلهية لاحظته في مختلف أدوار حياته و كان لها فضل كبير فيما وصل إليه من عز و سؤدد ، ذلك مما اقتبست من كتاب عصر محمد علي للكاتب الكبير عبد الرحمن الرافعي ، هذا الكتاب القيم تضمن سردًا تفصيليًا لعصر الباشا معتمدًا فيه علي عدة مراجع هامة و سيرة شخصيات عاصرت الباشا ، فجاء الكتاب مرجعًا لا غني عنه للقارئ العادي و الباحث .
بدأ الباشا حكمه وسط صراعات مملوكية لا حصر لها ، استطاع بدهائه و سعة حيلته أن يفرض سيطرته علي كامل حدود مصر ، بل و تمددت تلك الحدود شرقًا و شمالًا و جنوبًا ، حتي بزغت شمس امبراطورية مصرية قوية ذات نفوذ يغالب كبريات الدول آنذاك ، تخلص من المماليك في مذبحة القلعة في واقعة – من وجهة نظري – تحسب له بلا شك ، فمن دونها ما استتب الأمر داخليًا ، و ما تهيأت الأمور للانطلاق نحو ثورة معرفية و صناعية و ثقافية لم تشهدها مصر منذ قرون و ما كانت لتشهدها لولا الحزم و قوة الشكيمة ، أما المأخذ الوحيد علي سياسته الاقتصادية فكان نظام الاحتكار ، الذي أرهق الشعب المصري أيما ارهاق ، فاحتكار الأراضي الزراعية و التجارة و الصناعة أساء إلي الشعب اساءة كبري لأنه ضرب عليه حجابًا من الفقر و الجمود ، و لعل عدم تفكير الباشا تفكيرًا جديًا في ايجاد نظام للشوري لعيب كبيرًا في سياسته ، إلا أن تلك المظالم التي أرهقت الشعب المصري في عهده أخف وطأة من المظالم التي كانت تقع في عصر المماليك .
إذًا فإن لعبقرية الصِدّيق رضي الله عنه ، و عبقرية محمد علي باشا ، الأثر الأبلغ في تكوين فكري و رأيّ الشخصي المتواضع في نظام حكم سوي شديد الركن ، ذو دعائم قوية سياسية و اجتماعية و اقتصادية ، و لا يفوتني في هذا المقال أن أشير إلي الآية الكريمة و التي أذكر بها نفسي و إياكم :” قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) “آل عمران .
فالمُلك مُلك الله سبحانه و تعالي يهبه لمن يشاء و ينزعه ممن يشاء ، فالمُلك ليس لمن سعي له و اخطط له ما لم يكن مدعومًا بتوفيق و عناية إلهية تيسر له ما يرنو إليه ، و ما كنت ساعيًا يومًا إلي مُلك أو حكم ، لكنها شطحات خيالية ، و سؤال عبثي ماذا لو ..؟! ، قد يتبادر إلي ذهن كل مواطن يعني بشئون و هموم بلده ، مواطن يتطلع لمستقبل أفضل لأبنائه و بناته ، مواطن لا يخشي إلا الله ، لا ينحني من باب العزة و ليس الكبر ، مواطن مصري يعي قدر بلد بحجم مصر سياسيًا و اجتماعيًا و اقتصاديًا ، مواطن يسطر بعزة و شرف تاريخ مشرف لبلده و أبناء بلده قبل أن يسطر لنفسه .
معذرة صغيرتي لست الحاكم الذي تنشدين ، لكنني أملك سلاحًا أقوي حدة و أعمق أثرًا و هو القلم ، أسطر و أخلد به حديث بيني و بينك ، أمنية في وطن أفضل ، فكفاكِ فخرًا صغيرتي أن أباكي صاحب قلم .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق