مقال

الزتونة

كتب عاصم صبحي

عملًا بمبدأ ” إن خفت ما تقولش ، و إن قلت ما تخافش ” ، أخوض في حديث قد لا يروق لكثير من الناس ، و قد اخترت لحديثي هذا كلمة ” الزتونة ” كعنوان ، مستعيرًا إياها من ممثل مصري برع و و تألق و سطع نجمه في أدوار كوميدية بعدة أفلام قام ببطولتها و هو الفنان ” محمد سعد ” ، ” الليمبي ” أو ” بوحه ” الذي جاءت هذه الكلمة ” الزتونة ” علي لسانه ، لكن زيتونتي تختلف عن زيتونة بوحه ، و هو إنما كان يقصد بها ” اللّب ” لُب الموضوع أو لُب القضية ، و لُبّ الشئ يعني نفسه و حقيقته و خلاصته ، و خلاصة ” سعد ” أن الناس قد انشغلوا أو شُغِلوا بدنياهم و بالسعي الدؤوب علي لقمة العيش و توفير الحد الأذني من متطلباتهم اليومية و المعيشية ، فأصبح الكفاف هو هدفهم و غايتهم و أقصي طموح أغلب الناس .
كفاف المأكل و المشرب و الملبس ، لكن حب المظاهر أصبح سمة من سمات الشعب المصري ، غنيه و فقيره علي حد سواء ، فتري الفقير إذا انتوي الزواج فهو هنا لن يبحث عن الكفاف في المعيشة ، فتراه مسرف كل الاسراف حتي الاستدانة و الغرامة ، كذلك الغني تراه مسرف كل الاسراف حتي السفه و و الفجور في مظاهر خداعة و بريق زائف و زائل .
دنيا ذات بريق وهاج يخطف الأبصار و يُلهي العقول و يسلبها ارادتها فتتبعه دون تفكير مقتفية أثره أينما ولّي ، حتي تولّي عليهم الشيطان و مَلَك زمامهم و ذهب بألبابهم فنسوا ذكر الله ففسدت معيشتهم ، و هذه زيتونتي .
غُوِيّ الناس و تَغَاوا ، و فُسِدوا و تفاسدوا ، و لم يكن الأمر بين ليلة و ضحاها و لكنهم سُقوا الفساد جرعات جرعات عبر عدة أجيال مضت حتي أصبحنا نعاصر من الفساد أشكال و ألوان خُيل لي و لمن هم من جيلي في يوم من الأيام أنه درب من دروب الخيال ، فإنّا ظننا أن مواريثنا التربوية و الأخلاقية ستظل قائمة و العيب سيظل عيبًا و الحلال ممتنع بصدق الايمان ، حتي ألفنا العيب و اختلط علينا الحلال بالحرام ، و أُستباح المجتمع و أُستباحت الأسرة .
و استفرد غول الفساد بالفرد فأخذ بناصيته يجره عن يمين و شمال مُشككًا إياه في دينه ، حاططًا من أخلاقه ، غامسًا إياه في جهل من ورائه غرور و كِبْر لم نعهده نحن و لا آبائنا ، فوقف بيننا و بين أبنائنا نمانعه عنهم بكل ما أوتينا من قوة إيمان و علم و صبر هذا إن وُجِد و تيسر و مازلنا علي هذا النحو .
فقدنا العائلة التي هي حائط الصد و المنع ، فقدناها و شُيعت جنازتها منذ زمن ليس بالبعيد ، أصبحت أنا أفتقد لمة العائلة ، افتقدت حضنها الدافئ حتي أشفقت علي أولادي ، فحين أحدثهم و أروي لهم قصص و حكايات منزل العائلة الذي هم مقيمون فيه أشعر و كأنهم يستمعون لأساطير من عالم آخر ، فأين إذًا هذه الامة المزعومة ، أين الأعمام و الأخوال ، و الخالات و العمات ، أين أولادهم و أين نحن منهم ؟! ، كيف السبيل إلي لعب القرناء و الأقرباء ؟ ، أين ألعابكم البسيطة و أين حكاويكم البريئة ؟! ، أيمن و ينعقد لساني و يعتصر قلبي مُعتبرًا ، فلا أجد جواب إلا أن الزمان قد تغير و الدنيا تلاهي …
و إن صادف و اجتمعت تلك العائلة المزعومة الآن فهم متنازعون أمرهم فإما إرث و إما تجارة و إما قيل و قال في توافه الأمور ، فأُكل حق الصغير و هين الكبير ، فتخاصموا و تباغضوا و حالت بينهم الأسباب و غاب أصحاب الألباب .
ذَهَبت أخلاقنا و ضمائرنا أدراج الرياح بينما نحن في غفلة ساهون في دنيانا لاهون لاعبون ، لا هَم لنا إلا جمع المال و الحرص علي حياة ، و الخوف من الموت ، و وددنا او نعمر ألف سنة ، فظهر فينا و علينا سفهاء القوم و أذلته فإعتزوا علينا و حدثوننا من عِلّيّ ، فأصبحنا لا نري إلا ما يروا و لا نسمع إلا منهم و لا نأخذ إلا عنهم ، فأَدخلوا علينا كل دخيل عويل ذليل ، فاستباحوا الدين و شككوا فيه مثيرون أتفه القضايا و الأمور ، بحجة التجديد و التنوير و اعادة البناء ، كأن الدولة بمن فيها لم تكن علي اسلام و لم تعرفه قبل أن يتفضل هؤلاء الأقزام علينا بما فتح الشيطان عليهم .
لكن العجب العجاب أن ينساق أولوا العلم و الفقه و الشريعة من بعض الشيوخ في ركاب الشيطان و ضلاله منتفعون بما أفاض عليهم من حُسن الجوار و الإيثار و النفحات و الڤيلات و المكانة ، فغاب عنهم سلطانهم و تسلطن عليهم كل آثم لئيم .
و أتسائل أين ذاك الكيان المرموق صاحب الصفحة البيضاء و إن حاول البعض تلويثها إلا أن إمامه و شيخه الأك بر يقف لهم بالمرصاد ، أين دور الأزهر الشريف و هو حائط الصد المنيع الذي لن يسطيعوا له نقبا بفضل من الله و بفضل شيخه الإمام الجليل أحمد الطيب ؟! ، هل خارت قواه – قوي الأزهر – أم لانت عزيمته ؟! ، ما لنا و قد استكنا و ركنا إلي رغد العيش و الدعة ، ما لنا و قد رضينا بالحياة الدنيا ، كيف لا نصد عن وطننا و أرضنا و أخلاقنا و ديننا ؟! .
و أخيرًا يحضرني في هذا المقام دعاء النبي صلي الله عليه و سلم في محنته و ابتلائه و ضعفه و هوانه علي الناس وحيدًا حين كان عليه الصلاة و السلام بثقيف بالطائف : ” اللهم إليك أشكو ضعف قوتي و قلة حيلتي و هواني علي الناس يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين و أنت ربي ، إلي من تكلني ! إلي بعيد يتجهمني ، أو إلي عدو ملكته أمري ! إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي ، و لكن عافيتك هي أوسع لي ، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات و صلح عليه أمر الدنيا و الآخرة ، من أن تُنزل بي غضبك ، أو تحلّ عليّ سخطك ، لك العتبي حتي ترضي و لا حول و لا قوة إلا بك ” .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق