مقال

السكان الجُدُد

بقلم عاصم صبحي

 

إحترت كثيرًا في أسلوب كتابة و صياغة هذا الموضوع ، هل أُصيغه بأسلوب المقال أم بأسلوب القصة القصيرة ، و هل تكون الشخصية بطل ذكر أم أنثي ؟! .. وقفت كثيرًا فلكلٍ أسلوب و لكلٍ نظرة و رؤية ، لعلها المرة الأولي التي يقف فيها القلم محتارًا ليس بين موضوع و آخر كالعادة لكن الحيرة في أسلوب صياغة ذات الموضوع المحدد و الذي لا ينافسه موضوع آخر ، فالأفكار محددة و الرؤية واضحة و الاسم أو العنوان كُتِب إلا أنه كما ذكرت جاءت الحيرة في أسلوب الصياغة .
لكن أنا و قلمي نتسم بالصبر فهو قدر و مكتوب ، و الحمد لله لم يطول في هذا الشأن خاصة ، إلا أنه أي الصبر قد طال في أمور أخري و ليس من بد إلا الصبر علي الصبر لعلنا نُكتب من الصابرين .
فكان الفرج من عند الله إذ بدأ القلم يسطر كلمات أنت بصدد قراءتها الآن ، و قبل أن ندخل في صميم و صلب الموضوع أنا أنتظر منك عزيزي القارئ سؤال أري أنه لابد منه حتي أشعر بالتفاعل بيني و بينك ، فأنا لا أكتب لنفسي و السؤال هو لماذا احترت كثيرًا هذه المرة و ما الذي منعك من تحديد الأسلوب بسهولة خاصة أنك قد حددت موضوعك ؟!!
بالطبع بما أنني توقعت منك هذا السؤال فإنك بكل تأكيد تنتظر الإجابة .. صح !!
عندما يتعلق الأمر بأحاسيس و مشاعر فرد تجاه أفراد و أشخاص آخرين ، و عندما تكون صاحب نظرة نقدية إيجابية و ليس سلبية و شتان بين هذه و تلك ، و إذا كان هؤلاء الأشخاص قريبون منك و لهم معزة خاصة عندك فإن عليك تحري الدقة في الكلام و الوصف ، و إلتزام الحياد و الحرص علي التوازن النفسي في التعبير و اختيار الكلمة و الوصف الدقيق لكل احساس .
و أنا للأمانة لا أُجيد استخدام التعبير اللفظي و الوصفي للأحاسيس و المشاعر الانسانية بكلمات منمقة ، ليس علي الورق و حسب و لكن في تعاملاتي الشخصية ، فقد يري البعض مِن مَن يعرفني حديثًا أنني حاد الطبع و له العذر فأنا قليل الكلام و هادئ هيئة و أسلوب ، فنظرة الحدية هنا لا تنطوي علي العصبية و لكن علي شخصية متعالية و غير اجتماعية ، لكن سرعان ما تتبدل النظرة و تتضح الشخصية لمن يقترب .. خلاصة القول هنا أنني في الحياة العامة لا أجيد التعبير قولًا و لكن بتوفيق من الله عز و جل أحترفه فعلاً .
بالقياس علي ما سبق فإن تعاملي مع السكان الجُدُد كان في هذا الإطار و من ذاك المنظور ، لكن عن أي سكان أتحدث ؟!
إنها عائلتي الصغيرة أو أسرتي المكونة من الزوجة و الابنتين ، نعم هم السكان الجدد الذين حلوا محل السكان السابقون في تلك الشقة أو هذا المنزل الذي أسسه والدي رحمة الله عليه ، فقد كان هذا المنزل هو بيت العائلة و الذي لم أبرحه و الذي لطالما سنحت الفرص لوالدي لتغييره بمنزل آخر أكبر و أوسع إلا أن والدي كان بارعًا في إضاعة الفرصة تلو الأخري ، و ذهب الوالد و كان أول من ذهب و رحل ليس عن المنزل و حسب لكن عن الدنيا تاركًا لي و بالتأكيد لكل أعضاء الأسرة ذكريات لا حصر لها الجميل منها و السئ فلكل شئ وجهان إلا الخالق الواحد الله عز و جل .
و أختص نفسي بالحديث ، بقيت بالمنزل حتي صرت وحيدًا فقد هاجر أخوتي و رحلت أمي رحمة الله عليها عن عالمنا مطمئنة علي ابنها البكري حيث أنها كأي أم سعت لزواج ابنها كي تطمئن عليه قبل أن ترحل ، و قد كان و أصبح لي شركاء في منزل العائلة .
أري الآن السكان الجُدُد يكتبون و ينحتون ذكريات جديدة علي جدران و بين جنبات هذا المنزل ، كلما خلوت بنفسي أجلس أتأمل كل ركن و أسترجع كل ذكري و أحيانًا بعض الأحاديث و المواقف ليس مجال سردها هنا ، و أري أمام عيني تاريخ جديد يُكتب في أحضان هذا المنزل لست أنا بكاتبه بل صغيرتاي فهما أصحاب القلم اليوم يسطران و ينسجان و يملئان المنزل و حياتي بذكريات جديدة جميلة و دافئة ، ضحكات هنا و هناك ، شقاوة من هذه و حنية من تلك ، بابا من الصغيرة و ماما من الكبيرة .
تاريخ جديد يكتبه هؤلاء الجدد خاصة تلك الأم و التي هي محور المنزل كونها أم ، تلك الشخصية التي لا علاقة لها بذكريات المنزل القديمة فهي الآن صاحبة المنزل و محور حياته و تشارك الصغيرتان كل صغيرة و كبيرة فهي حجر الأساس في بناء جديد يحوي ذكريات جديدة .
و كما أن الأم هي حجر الأساس فإن الأب هو حجر الزاوية الذي لا غني عنه و به يستقيم البناء ، فأنا لا أقف موقف المتأمل و حسب بل أنا فاعل أساسي ، فعليْ تعيين و تحديد المواقف و العادات و التقاليد التي من شأنها أن تصنع الذكريات التي سوف تُحفر في وجدان الطفلتين و التي سوف يتذكراها بكلمة حلوة أو بفعل يبقي أساس لأفعال أو لعادة حميدة يتبعاها ، بمعني آخر نقل ما هو قديم موروث من عادات و تقاليد و أسلوب تربية إلي الجيل الحديث ممزوج و مطور و مجدد حتي يتقبله و يستثيغه و لا ينفر منه هذا الجيل الحديث .
أشارك بكلمة أو بموقف أو في خطة يضعاها سويًا و يشركاني فيها للنيل من أمهم في مقلب مضحك ، أستمتع بالمشاركة و أستمتع أكثر بصوت الضحكات .. و هكذا عزيزي القارئ فإن هؤلاء السكان الجُدُد أصبحوا حياة جديدة بعثت الروح في ذكريات أو في حياة قديمة كنت أظنها ماتت .
إتسع لدي منظور السكان الجُدُد ليشمل الشارع الذي أسكن فيه ثم المنطقة ثم الحي فالأحياء المجاورة حتي شمل الاسكندرية الجميلة عروس البحر الأبيض المتوسط ، تلك المدينة التي أشعر أنها شاخت ، العروس سقط عنها زينتها و حُليها و تمزق ثوبها البهي الجميل ليس بفعل الزمن فتاريخها مديد و عريق أسسه خليط من أجود أنواع السكان ، خليط من كل حدب و صوب جعل من تلك المدينة منارة تنير لأجيال و لأحقاب طويلة مستمدة نورها من ثقافات العالم أجمع ، عروس ليس كمثلها عروس .
يتباري سكانها الجدد في طمس معالمها و تشويه كل ما هو جميل عريق مميز و تغييره بكل ما هو قبيح و غريب عن تلك العروس الحزينة .
كان لابد من الإشارة لهذه النقطة المهمة في هذا المقال فلا تنسي أنني حجر زاوية أشارك صغيرتاي صنع ذكرياتهما بالتالي فإن المنزل ليس بالحد المطلق بل الحدود تتسع لتشمل تلك المدينة التي ولدا فيها و يعيشان فيها ، فأنا أنقل لهما صورة أوسع و أشمل ليدركان البعد الثقافي و الاجتماعي لحياتهما و ذكرياتهما .
و هنا النهاية المتواصلة فلكلٍ حياته قديمها و حديثها ، ذكريات لا تنتهي نسعي لنأخذ منها العبر و الخبرات ليتوارثها الأبناء و الأحفاد ، احرصوا علي كل ما هو جميل ، احرصوا علي كل ما هو أصيل ، تواصلوا و لو بكلمة مع الأجيال الجديدة فهي في أمَس الحاجة لتلقي المعلومة المفيدة و الخبرة المستمدة من الماضي الجميل حتي إذا صارت تلك الأجيال الجديدة قديمة وجدت موروث محترم راقي تستطيع التواصل به مع السكان الجُدُد .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق