المجتمع

للكبار فقط!!

بقلم عاصم صبحي

للكبار فقط عبارة كان يكفي وجودها علي أحد أفيشات أو إعلانات أحد الأفلام السينمائية لكي يسيل لها لعاب ذاك المراهق الذي يخطو خطواته الأولي في سن المراهقة ، تلك المرحلة العمرية في حياة كل إنسان و التي يبدأ فيها نهر حياة كل منا في الفوران و تدفق مياهه بقوة و عنفوان كأنه مقدمة فيضان جارف يشق طريق حياته بين رمال و صخور و حجارة خالقًا لنفسه مجري لا يعيقه شئ حتي يصل إلي مصبه ، قد يكون نهر عظيم تتفرع منه عدة أفرع ، و قد يكون مقدرًا له السريان المؤقت قصير المدي لا يعدو تأثيره إلا أن يكون مجرد أثر بعد عيان .
يولع الفتي بعبارة للكبار فقط ، يختلق الفرص من بين أنياب الأسد ليشاهد أو لمجرد الإطلاع علي معلومة عن عالم هؤلاء الكبار ، فتارة تكون المعلومة جنسية و تكون هذه هي مبتغاه ، فهو الذي بدأ لتوه الشعور بالتغيرات الفسيولوجية في جسده ، و بدأت الأحاسيس و المشاعر تسري في عروقه و جنباته و بدأ القلب يدق و يخفق كلما لمحت عيناه إبنة الجيران ، و قد يسعي للتلصص لإستراق نظرة لجسد امرأة عار ، و تارة تكون المعلومة مرعبة ، و هنا يقل الاهتمام و الرغبة في الاطلاع و المعرفة ، قد يكون الشعور بالخوف فعلا من تلك المشاهد أو الصور المقززة المليئة أحيانا بالدماء و أحيانا بلحظات الترقب و الرعب ، لكنه يمتلك من الفضول ما يجعله يقدم علي معرفة اليسير من ذلك العالم الآخر أو الوجه الآخر لعالم الكبار .
تمر السنون و يكبر و ينضج صاحبنا ليصير شابًا يافعا ، لا تزال مياه نهر حياته تتدفق بقوة شاقة طريق حياته ، و تختلف النظرة و يتسع الإدراك و يمتد البصر و تتبدل المعاني ، فعالم الكبار لم يعد جنسي كما لم يعد مرعبا ما كان يظنه مرعب ، فعالم الكبار أصبح له معني آخر و هو عالم المال .
سعي الشاب و تحفز و تسلح بالعلم و أخذ بأسباب جمع المال شرعًا و بمجهوده و عمله و ذكائه مستعينًا بخبرات و نصائح من سبقوه لعالم المال و الأعمال ، تحقق له ما يريد في وقت يحسد عليه ، فما أن تخطي الأربعون من عمره حتي صار واحد من كبار رجال الأعمال ، يا له من عالم براق أخاذ ذو رونق و مهابة يتطلع إليه الكثيرين ناظرين إلي هذا العالم بعين الإحترام ، يظنه البعض أنه هو بالفعل عالم الكبار و أن هذه الدنيا قد خلقت لهم ، فهم الكبار بثرواتهم يمتلكون كل شئ ، و يراه البعض الآخر أنه مجرد جزء من عالم الكبار أنا الجزء الآخر فيكمن في السلطة … و كان صاحبنا من أصحاب هذه النظرة ..
هدأت مياه النهر بعد أن أصبح للنهر مجري عميق و أصيل في الدنيا ، لكنها ما زالت تحتفظ بنشاط مدخرة قوتها لما قد يصادفها أثناء سريانها قاصدة المصب الذي لا فرار منه … إذًا نضج رجلنا و أصبح أكثر ثراءا إلا أن نظرته لعالم الكبار قد تغيرت ، فهو يري عبارة للكبار فقط الآن علي باب السلطة .. أثقلته الخبرات و التجارب فعالم السوق و الأعمال مدرسة حياتية بحق ، قرر برصانة لا تخلو من روح المغامرة التي إعتادها و أصبحت سمة من سمات شخصيته أن يكمل مسيرة الكبار .. في غضون عدة سنوات لمع اسمه في عالم السياسة من باب مجلس النواب و إزداد بريقًا و ثقة و شعر أن النهر أصبح مكتملًا و عميقًا بالقدر الذي يكفل له البقاء لتروي مياهه كل من يحيطون به و تعتمد حياتهم علي وجود هذا النهر .
شارف علي الستين من عمره أصبح له عائلة ، فالنهر أصبح له أفرع تفرعت منها أذرع ، فها هو صاحبنا أصبح جد يري أحفاده يلعبون و يمرحون أمامه ، يستمتع بمشاهدتهم يلعبون ، يستمتع بالرد علي أسئلتهم و استفساراتهم ، يساعد في حل مشاكلهم هم و أبنائه هو و البعض من الأقارب المقربين و البعض من أبناء الأصدقاء أيضا .. هنا لاحظ شئ مهم و مثير للانتباه ، فقد عثر علي باب آخر من أبواب الكبار ألا و هو كبير العائلة صاحب الرأي السديد و المشورة و ملجأ الضعفاء .. إذًا فقد اكتملت له معاني عبارة للكبار فقط .
لا ليس بعد ، فهو يشعر دائما أن هناك باب أكبر أو معني أشمل و أدق في هذه المرحلة من جريان النهر الذي أوشك أن يصل إلي منتهاه و مصبه .. أي نعم قد تجلت له معاني الثروة و السلطة و العائلة إلا أن هذه المعاني لا تعدو أن تكون ممرات صغيرة لابد لها أن تؤدي إلي باب أوسع و أعم .
لم يحيد صاحبنا طوال مسيرته عن طريق الاستقامة ما استطاع ، فهو القريب من الله عز و جل ، عامل بأوامره و متجنبًا لنواهيه .. لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها .. قارئا لكتابه الكريم .. فقد كانت تلك الصلة الدائمة بربه هي الركن الشديد الذي يركن إليه في الشدائد و المصاعب و هي بكل تأكيد المصباح الذي أضاء له طريقه و قوي بصيرته التي دعته للبحث عن ذاك المعني الأعم و الأشمل لعبارة للكبار فقط ، هذا المعني الذي تجلي لصاحبنا بكل وضوح .
إذًا فتلك العبارة التي قرأها طوال حياته و سعي ليكون واحدًا من الكبار في كل مرة تصادفه ، تلك العبارة التي اتخذها عنوانًا لحياته لم تكن لتغيب بالمال و الثروة و لا بالسلطة و النفوذ و لا بكونه كبير عائلته إلا أن هذا الباب بالذات قاده إلي المعني الأشمل و هو الحكمة .. نعم الحكمة التي لا تنال بالسعي لها بل هي منحة و عطاء جزيل و خير عظيم يمن به الله سبحانه و تعالي علي من يشاء من عباده .
لا يشترط أن تكون ذا مال أو سلطة أو عزوة فلقمان الحكيم كان مولي أي عبد يعمل نجارًا و قد أوتي الحكمة من لدن الحكيم الخبير الذي لا راد لحكمه و مشيئته .
هدأت المياه و شارفت علي المصب و أصبح النهر عظيم بروافده و بعطائه و اطمأن لكونه نهر كبير لن يجف و لن يموت فأصحاب الحكمة لا يموتون بل تظل ذكراهم عطرة و عطائهم غير محدود.. و ابتسم صاحبنا و اطمأن كل الاطمئنان و هو يقرأ قوله تعالي” يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق