مقال

التعليم و سنينه

بقلم عاصم صبحي

التعليم و سنينه

وضعت العنوان ثم وجدتني في حيرة كبيرة ، كيف أبدأ في سرد المحتوي ، من أين أبدأ ؟! ، هل أبدأ مهاجماً لنظام التعليم في مصر ، أم محايدًا أن مدافعًا عنه ؟! ، لكني أميل إلي المهاجمة ، فأنا أب و لدي ابنتين تدرسان بالمرحلة الابتدائية ، و لو أن الكبري علي أعتاب المرحلة الاعدادية ، أعاني من مصاريف الدروس الخصوصية ، و للعلم فإن ابنتاي مقيدتان باحدي المدارس الحكومية ، و أنا خريج احدي أهم المدارس الخاصة العريقة ” كلية سان مارك ” بالاسكندرية ، بالتالي فمن السهل المقارنة بين جيلي و مدرستي و بين الجيل الحالي و مدرسته الحكومية ، و المقارنة هنا مفتوحة في كل المنظومة التعليمية و نشاطاتها و كفاءتها و أسلوبها و الهدف منها .
لكن مسألة الدروس الخصوصية و مصاريفها ليست هي الهم أو المعضلة الأساسية رغم كونها عبء مادي رهيب علي كاهل الأسرة المصرية البسيطة و المتوسطة ، أما المعاناة الحقة فقد لمسناها جميعًا و تعرفنا عليها من تخبط قرارات تعليمية و الاستحداثات الغريبة الغير مجربة و حتي المجربة منها فهي تطبق بعشوائية ، اسأل أي أم مصرية لديها طفل في الصف الرابع الابتدائي أو تلميذ بالمرحلة الثانوية و الاعدادية كذلك عن حجم معاناتها و الصعاب التي قابلتها أثناء سير العملية التعليمية خلال العام الدراسي ، من طول مناهج و ثقل المواد و مدي استيعاب التلميذ و قدرته علي التحصيل في جو مشحون مثير و سوف تسمع ما لا يحمد عقباه ، بل اسأل المدرسين أنفسهم .
إذًا فقد اتضح الطابع الهجومي المعترض علي المنظومة التعليمية في مقالي هذا دون الخوض في تفسير و تعليل أسبابي في أكثر من النقطتين اللتين طرحتهما سالفًا ، فالأسباب كثيرة متعددة واضحة لمن أراد أن يطلع علي أسباب سوء المنظومة التعليمية في مصر ، و هي ليست هدفي و مقصدي فيما أكتب و إلا ما كانت الحيرة في مقدمة الموضوع .
لازلت في غير هدفي .. نقطة استوجبت البحث ليس عن جهل لكن رغبة في المزيد من المعرفة الدقيقة و الاطلاع العلمي المستنير حتي يأتي الحديث جامعًا شاملًا علي أساس من العلم – تري .. لا يتوقف العلم و التعلم عند سن معينة – .
العلم و التعليم في القرءان الكريم ، أطروحة بسيطة إذا طرحت علي انسان بسيط متوسط الحال علميًا سوف تكون اجابته علي الفور بأن أول كلمة نزلت في القرءان هي ” اقرأ ” ، و هو علي حق و صواب بالغ ، لكن دورنا أن نستزيد من العلم و نقرأ ، فقرأت عن أهمية التعليم في القرءان الكريم ، فكانت البديهة الأولي و هي أول ما نزل من القرءان : ” اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) ” سورة العلق ، ثم تتوالي البديهيات في قوله تعالي : ” وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْمًا ” آيه ١١٤ طه ، و قوله تعالي : ” قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ ” آيه ٩ الزمر ، و قوله تعالي : ” يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ” آيه ١١ سورة المجادلة ، و قوله تعالي : ” إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ” آيه ٢٨ سورة فاطر .
و بالقياس فلا تكاد تخلو سورة من سور القرءان الكريم من الحديث عن العلم سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ، ناهيك عن الأحاديث النبوية الشريفة التي تضمنت العلم و الحث عليه ، و لعل الله سبحانه و تعالي كرم آدم علي سائر مخلوقاته بما آتاه و منحه من علم ، في حديث شريف عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلي الله عليه و سلم : ” من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلي الجنة ” .
و هنا يقول لنا التاريخ أن المسلمون حين أخذوا بالعلم كان لعلمائهم عظيم الأثر في التراث الانساني بإسهاماتهم العلمية التي يظل العالم بأسره مدينًا لها .
اقتربت من هدفي .. كنت بصدد قراءة كتاب ” حكايات من دفتر وطن ” للكاتب الراحل صلاح عيسي ، كما هو واضح من عنوان الكتاب فإنه يضم عدد كبير من حكايات الوطن في مفهومه الأكبر و الأوسع مدي ، فحكي عن مصر ، و عن غيرها من أقطار الأمة العربية ، ليكون هذا الكتاب أقرب ما يكون إلي صورة الوطن ، تغري المحبين بالقراءة في تاريخه ، و بالهيام في عشقه ، كما أغرته ( منقول من الغلاف الخلفي للكتاب ) ، و لما كانت آخر حكاية ” رفعت العَلَم يا عبد الحكم ” ، عبد الحكم الجراحي هو أحد الطلبة الذين استشهدوا في مظاهرات الطلبة في عموم مصر في نوفمبر ١٩٣٥ ، تنديدًا و احتجاجًا علي بيان ” صمويل هور ” وزير خارجية بريطانيا و الذي أعلن فيه رفض بريطانيا لعودة الحياة الدستورية في مصر ، استرسل الكاتب في تفاصيل أحداث و ملابسات الموقف السياسي آنذاك ، و العوامل التي أدت إلي قيام تلك المظاهرات ، و من هم عناصرها و قواها المحركة ، و كيف و أين و متي قامت و انتهت ، إلي أن ساق الكاتب معلومة ضمن السرد الممتع الشيق ، معلومة في ثلاثة أسطر و نصف أنقلها لكم من الكتاب حرفيًا : ” ففي يوم ١٥ نوفمبر نشرت جريدة الجهاد خبرًا في صدر صفحتها الأولي قالت فيه إن البوليس قد حاصر إحدي مظاهرات الطلاب ، فأصاب عددًا منهم لجأوا إلي دار الجهاد يطلبون اسعافهم ، و كان بينهم طالب بمدرسة النهضة الثانوية اسمه جمال عبد الناصر . ” ، و انقطع الخبر ، وجدتني في حيرة من أمري ، فلم يشبع الكاتب فضولي و شغفي في الحصول علي أكثر من مجرد الاسم ، هل هو جمال عبد الناصر الذي حضرت صورته في ذهني بمجرد قراءة الاسم أم هو شخص آخر ؟! ، تلك المعلومة كانت جديدة بالنسبة لي ، فبعد أن أجبرني الكاتب علي البحث و الاستقصاء وجدت أنه يعني بالفعل الرئيس الراحل جمال عبد الناصر .
فكان هدفي .. بعد أن علمت و تيقنت من المعلومة ( ليس تشكيكًا في معلومة الكاتب و لكن رغبة في الإستزادة و المعرفة و العلم ) قفز إلي ذهني سؤال – صغير لكن يحير ( خروج عن النص ) – كيف تعامل الزعيم الذي كان يومًا ما طالبًا قائدًا لمظاهرة و أصيب و كتبت له النجاة مع مظاهرات الطلبة في عهد حكمه للبلاد ؟! .
أري أنه من واجبي أن أطرق لك بابًا للاطلاع ، عليك أن تطلع من خلاله و البحث عن تفاصيل النظام التعليمي إبان حكم الأسرة العلوية ، منذ تولي محمد علي باشا الحكم إلي فاروق الأول ، هذا الأخير الذي قامت عليه ثورة الضباط الأحرار ، و هم من تلقو العلم و نالوا شهاداتهم في مدارس العهد البائد كما أطلقوا عليه .
هذا النظام التعليمي كان ملكيًا ، بمعني أنه كان نظامًا يحتذي به و معترفًا به و قدوة و قادر علي تخريج عمالقة و فطاحل و نجوم في سماء العلم ، و الأسماء كثيرة في شتي المجالات العلمية ، غالبيتهم كانوا ينتمون لأسر رقيقة الحال ، مما يعني أن التعليم كان متاح لجميع طبقات الشعب و للأصلح فيهم ، ابحث عزيزي القارئ جيدًا في التفاصيل ، فلا يتسع مقالي هذا لسردها و إلا كان كتابًا قائمًا بذاته .
لكن دعني أخوض في نقطة هي الأهم بالنسبة لي ، فهي هدفي القائم عليه هذا المقال ، جودة التعليم التي أفرزت رفاعة الطهطاوي و طه حسين و عباس العقاد و نبوية موسي و سميرة موسي و غيرهم كثير ، نظام أفرز رجال و نساء ذوو عقول و شخصيات متفتحة مستنيرة و أصحاب رأي نافذ يحاذي به ، عقول و شخصيات قادت حركات طلابية عظيمة في تاريخ مصر بل و العالم ، كيف لا و هي التي كانت نتاج عمل الزعيم مصطفي كامل ، الذي كان أول من أسس و نظم و استعان بالحركات الطلابية ، تعليم مميز ينتج شخصيات مميزة صاحبة رأي ، هذا هو مكمن الحقيقة ، الجوهر الذي عمل ضباط يوليو ١٩٥٢ علي اضعافه و تهميشه .
فتح لي سؤالي بابًا لتفاصيل لم أتطرق إليها من قبل ، تري عزيزي القارئ .. العلم يجلب علم و العلم يقود إلي تفاصيل ثم تأتي تفصيلة لتفتح باب علم آخر و هكذا ، لا انقطاع للعلم ، حتي بعد البعث من الموت فسوف نعلم ما لم نكن نعلمه و حقيقة ما كنا فيه مختلفون .
استخدم الزعيم صاحب النكسة الحركة الطلابية لمصلحته و مصلحة نظامه ، علي اختلاف تيارات تلك الحركة و ما أكثرها ، فكانت الحركة طوال عهده حركة مصنوعة علي عين السلطة و مأتمره بأمرها ، بالتالي فإنها عجزت عن أن تكون حركة إيجابية لها إمتداد خارج أسوار الجامعة . شغل الطلبة بأنفسهم ، جعلهم يتجسسون علي بعضهم البعض و يكتبون التقارير علي بعضهم البعض ، خلق أجواء قذرة تنتج شخصيات أقذر بلا شك ، كانت تبدأ تلك الأجواء مع الطلبة في الصف الثانوي ، تربية و تعليم !! .
فسدت أجواء التعليم ففسد التعليم ففسد المعلم و المتعلم ، فالخريج ، فالموظف ، فالطبيب ، فرجل الأعمال ، فتراكم الفساد و استفحل و استعصي علي انتزاعه ، فامتد و استشري إلي وقتنا هذا ، و الضحية تلميذ ، التلميذ الذي لا حول له و لا قوة فسد ، و التلميذ ذو الحظ العظيم أكثر فسادًا و قبحًا .
تعاظم الأمر علي مستوي المنظومة التعليمية إلي أن انسحبت أولويتها و أصبحت في ذيل الاهتمامات في مقابل حصولنا علي نصيب وافر من الكهرباء و الطرق و الكباري ، ليكون متنفس شباب اليوم مقهي أو مطعم أسفل احدي الكباري العامرة .
إذا كان الطالب المتعلم ذو الشخصية و الرأي السديد و القادر علي ابداء رأيه هذا و اقناع غيره به ليقود حركة طلابية تطالب بجلاء الاحتلال أو باصلاح الحياة السياسية في البلد ، و تطالب بمطالب مشروعة سوف يشكل صداع للزعيم ، فبلاها تعليم ، من البله .. و كان هذا هو التعليم و سنينه .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق