مقال

أخلاق العبيد

عاصم صبحي

 

أثار انتباهي و فضولي هذا المصطلح ” أخلاق العبيد ” و الذي هو عنوان مقالتنا هذه ، حين ورد ضمن حديث أثير بيني و بين مجموعة من الأصدقاء ، كنا نتناقش في أحوال مجتمعنا و ما طرأ عليه من تغيرات كثيرة و عميقة ، تغيرات اجتماعية ثقافية اقتصادية ، فعلي مدي ستة عقود أو سبع شهد المجتمع المصري مراحل تغير جذرية ، نري أنها وصلت لذروتها في هذا العقد الأخير .
مما لا شك فيه أن لكل تغيير ايجابياته و سلبياته ، و لعل من أهم ايجابيات تغير المجتمع هو زيادة الوعي ، سواء علي المستوي الفردي ، كوعي الفرد بقيمته الإنسانية و مدي أهميته كفرد في المجتمع ، و مدي تأثيره في مجتمعه ، مما انعكس علي المستوي الجمعي ، فنمي الوعي المجتمعي ككل ، و برغم هذا التعميم ، إلا أنه يتفاوت أي الوعي بتفاوت طبقات المجتمع ، فالكل يعي من منظور و في إطار طبقته التي ينتمي إليها ، فالعوامل الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية لها دور رئيسي في تشكيل هذا الوعي و التأثير فيه بدرجة أو بأخري .
أما عن سلبيات التغيير و التغير ، فإن تدني المستوي الأخلاقي يعد السمة الظاهرة بجلاء بين جميع فئات و طبقات المجتمع المصري ، إلا من رحم ربي .
قادني فضولي للبحث في هذا المصطلح عبر الانترنت ، فكان للفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه ( ١٨٤٤ – ١٩٠٠ ) الحظ الأوفر في عرض و مناقشة ذات الموضوع من وجهة نظر فلسفية بحتة تحت عنوان ” أخلاق السادة و أخلاق العبيد ” .
كما كان للفيلسوف المصري زكي نجيب محمود ( ١٩٠٥ – ١٩٩٣ ) مساهمة في ذات الموضوع في كتابه ” جنة العبيط ” ، إذ أفرد مقالة بعنوان ” أخلاق العبيد ” .
فكان البحث مثمر للغاية و مفيد جدا ، من الناحية الفلسفية البحتة ، و لو أن ” أخلاق العبيد ” لزكي نجيب محمود كانت أقرب للواقعية عن فلسفة نيتشه .
دعني هنا أسوق بعض مما جاء في مقالة زكي نجيب محمود :
” لقد كنت أتحدث منذ أيام إلي إمام من أئمة الأدب في الشرق العربي ، فقال : إن مصر في كذا ألفًا من السنين لم تنجب أديبًا عظيمًا ، فرددت عليه في إبتسامة الخجل : بل إن مصر يا سيدي في كذا ألفًا من السنين لم تنجب عظيمًا ، لا في الأدب ، و لا في غيره من شتي نواحي الفكر و الحياة .
زعمت ذلك و عللته بما نتحلي به من أخلاق العبيد ، لأن الخلق عندي لا يكون إلا بعد عزة و سيادة و طموح ، فلاحظت لك أننا عبيد في فلسفتنا الأخلاقية ، لأننا نصدر فيما نفعل عن طاعة لأمر سلطان خارج عن نفوسنا ، و لاحظت لك أننا عبيد في فلسفتنا الاجتماعية ، لأننا نقيم نظام الأسرة و نظام المجتمع علي أساس سيد و مسود ، ثم لاحظت لك أننا عبيد في بطانتنا الثقافية ، لأننا ننصاع في يسر يشبه الانزلاق نحو الإيمان و الإعجاب بما قاله الأولون .”
و يقول :” أنت أنت العبد لا تتلفت ، فلست تستطيب لنفسك عيشًا بغير سيد ، إن لم نجده في الأرض التمسته في السماء .”
و جاء في خلاصة المقالة :” و الرأي عندي هو أننا عبيد لأننا طغاة ، و طغاة لأننا عبيد ، و أما الانسان الحر القادر المكتفي بنفسه في عزة و كبرياء ، فلا هو يطغي و لا هو يعنو بوجهه ذلًا لطاغية .”
هذا ملخص شديد لما جاء في مقالته ، و لسنا بصدد مناقشة أفكاره ، و لا أفكار نيتشه الأكثر فلسفة و عمقًا ، و لكنا عرضنا ما سبق من باب المقدمة الثرية ، الفاتحة لآفاق الفكر و التأمل في أخلاقنا ، و القياس علي تلك النظرة الفلسفية ، هل نحن بحق عبيد ؟! و هل أخلاقنا هي بالفعل أخلاق عبيد ؟!..
أما بعد ، دعني أذكرك بما جاء في السطور الأولي من هذه المقالة ، فقد ذكرت لك أنني كنت أتحدث و أصدقاء لي فسيق هذا المصطلح من أحدهم ، حسنًا !!.
لكن ما القصة وراء الحديث أو المسببة و الفاتحة للحديث ؟!! .
بإختصار ، بينما كنا نجلس في أحد المقاهي مرت سيدة تسأل الله ، و لم تكن الأولي ، إذ مر بنا العديد من رجال و نساء و أطفال ، فلما امتنع صديقي المقصود بالسؤال عن اعطاء السيدة ، كذلك نحن ، ما كان منها إلا أن وجهت إليه شتمة ، ليست بالبذيئة لكنها شتمة ، و انصرفت ، فدار الحديث .
تناولنا خلال حديثنا أشكال و أنماط السؤال ، كذلك أشكال و أنماط السائلين ، فكانت الخلاصة أن الأغلبية تسأل و تمد يدها ، فهناك فئة الشحاتين و ما أكثرهم ، فاختلط الحابل بالنابل ، فلم نعد نفرق بين من يستحق و من لا يستحق الحسنة و الصدقة ، إذ أن الشحاتة أصبحت مهنة يمتهنها الكثير .
و هناك فئة العامل الشحات ، أو الموظف ، أو فرد الأمن لدي جهة حكومية أو مستشفي أو شركة أو أي منشأة تتعامل مع الجمهور بشكل مباشر ، فنجد من يسأل و يطلب بإلحاح و سماجة تحت بند ” كل سنة و انت طيب يا أستاذ ” ، و هناك من يطلب تحت بند ” مش هنشرب قهوة بقي ” ، و هي صورة من صور الرشوة ، و هناك من يفرضها فرض تحت بند الإتاوة ” مشي أمورك يا أستاذ ” .
و تنطبق هذه الأمثلة الثلاث علي جميع فئات و طبقات المجتمع ، من أدناها إلي أعلاها ، كل بطريقته و أسلوبه ، حتي وجدنا أن حكومتنا الموقرة تقترض و تمد يدها و تسأل ، لدرجة أنها تبيع ممتلكاتها في سبيل الحصول علي المال .
فتأثر سلوك الناس بالسالب ، فانحدرت الأخلاق و تلونت بألوان المسكنة المصطنعة ، و ازدادت سوء فانكسرت عزة النفس ، و انحدرت الإرادة في تطوير الذات و رفعة الشأن ، فصرنا عبيد ، و لا أستثني أحد ، فلكل درجته علي سلم العبودية ، و الكل يطغي علي الكل ، فأصبحنا نعيش في صورة الذئب و الخروف في آن ، داخل كل منا ذئب ينهش في خروف ، و في نفس ذات الوقت خروف مسكين يُنهش من ذئب مفترس ، و هكذا ..
فسادت بيننا أيها السادة العبيد أخلاق العبيد ..
حفظنا الله و إياكم و أصلح أحوالنا و عزنا بعزه فلا عزة إلا بالله ، و لا عبودية إلا لله .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق