أكتوبر ..
أوشك الشهر أن ينتصف ، و هو الذي عرف طريقه للمجد و الشهرة في تمام الساعة الثانية ظهر سادسه ، و كان ذلك من عام ثلاث وسبعون و تسعمائة بعد الألف ميلاديا ، حين عبرت جحافل الجيش المصري خط التماس الذي يفصلها عن قوات العدو المحتل لجزء كبير و مهم و يمثل البوابة الشرقية و الأهم للوطن الأم مصر ، حين عبر الجيش المصري قناة السويس ، و خر أمامه ساجدا الخط المنيع المسمي بارليف ، حينها عرف أكتوبر طريق المجد و التمجيد .
و لكن .. من قبله كان الشهر الأغر ، الكريم ، الذي صادفه أكتوبر فكُرِم بكرمه ، شهر رمضان ، و هو الأصل إن كنا محتفلين ، الشهر الذي عرف الحروب ، و عرفت الحروب به ، فعلي سبيل المثال لا الحصر كانت أولي الغزوات غزوة بدر في ١٧ رمضان من السنة الثانية للهجرة ، كذلك فتح مكة في العاشر منه من السنة الثامنة للهجرة ، و معركة القادسية فيه أيضا في السنة الخامسة عشر من الهجرة ، إذًا فهو أصل الذكري و المجد و التمجيد .
كانت هذه المقدمة لما هو آت ، بعد أن كنا نحتفي بانتصارات حرب تحرير سيناء عام ١٩٧٣ في العاشر من رمضان و السادس من أكتوبر ، انحصر الاحتفال شيئا فشيئا حتي صار ذكري نصر أكتوبر ، و اختفي رمضان ، ثم ما لبث أن لم يعد هناك من الأجيال الحديثة من يهتم لتلك الذكري ، سواء رمضان أو أكتوبر ، حتي أنا و جيلي الذي عاصر الحرب ، أصبح لدينا عدم مبالاة ، و فقدنا الشغف ، و حطت عزيمتنا ، فلم يعد هناك ذكري ولا احتفال .
أعوام قليلة و تندثر الذكري و تمحي ، فالأجيال الجديدة قد مُهد لها الطريق كي تصبح بلا ذكري و بلا أي احساس وطني معنوي ، فاقدة للإنتماء و الوطنية ، مشتتة مبعثرة ، لا يعلمون عن رمضان ولا حتي عن أكتوبر .
و لعل طوفان الأقصي يكون حدث قد أعاد أكتوبر للمشهد ، ففي السابع منه من العام الماضي ٢٠٢٣ شهدنا و العالم ما يشفي صدور المؤمنين و يثلجها ، لكن بعد مرور العام و أكثر ، و بعد تسارع الأحداث و حدتها ، و اتساع نطاق الحرب التي تستعر شيئا فشيئا ، ينزوي مجددا أكتوبر .
و قبل أن يحل علينا أكتوبر هذا العام ، خرج علينا رئيس الوزراء الاسرائيلي من علي منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة ، عارضًا علي الملأ خريطتين احداهما ظللت أجزاء منها باللون الأخضر ، و الثانية ظللت بقعة ما في الشرق الأوسط باللون الأسود ، ما يعنيني هي التي ظللت باللون الأخضر ، فهي تمثل خريطة الحلم العبري من النيل إلي الفرات ، فهو بمثابة إعلان رسمي من بيت العالم ، أن ها نحن قد حققنا حلمنا ، و صارت الأمور وفق هوانا و حسب مخططاتنا .
و لما كان قد استبق شهر أكتوبر بهذا الاعلان ، فإن هذا الاعلان يحمل في طياته اعلان لا يقل خطورة عن سابقه ، فبينما يعتقد العالم أو نحن الشعوب أن ما يجري من أحداث عضال جسام هو مقدمة لحكم دولي شامل تحت مظلة حكومة واحدة تسوس العالم ، فإن وقوف رئيس الوزراء الاسرائيلي علي هذا المنبر حاملاً خريطتيه ، و خاصة تلك التي باللون الأخضر ، هو بمثابة الاعلان الرسمي عن تمكن تلك الحكومة العالمية من مقدرات العالم ، و هي بالفعل دخلت حيز التنفيذ ، و تحكم و من ثم تطاع ، حتي و إن انسحبت بعض الوفود ، فهذا موقف هزيل خانع يائس لا حول له ولا قوة .
فمن ذا الذي يعترض الآن ؟! ، لا أحد ، تمضي الأيام و الشهور ، و العام انقضي ، و لا يتحرك ساكن ، و لا يجرأ ، أليس هذا بدليل قاطع علي التمكن ، و إن كان هناك بعض الأمور الروتينية التنظيمية ، اجتماعيا و اقتصاديا و ثقافيا و تعليميا و صحيا ، كلها أمور قد وضع لها الاطار الذي من المفروض أن لا تخرج عنه ، فالرتوش الأخيرة الادارية لا تهم ، فما يلي الاعلان الرسمي لا يشغل بال الرعية في شيء ، فلا لهم رأي و لا وزن .
و ليحتفظ كلٌّ بذكرياته و مناسباته لنفسه ، هذا إن تبقي منها شيء ، فالقادم عليه أن يذكر ما تمليه عليه الحكومة العالمية ، هذا حالهم الآن ، و حالنا الذي لا مفر منه ، ليس يأسًا أو قنوطًا حاش لله ، و لكن حتي يقضي الله أمرًا كان مفعولا فله وحده الأمر من قبل و من بعد ، فقوله الحق ”
وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141) ” سورة النساء .