كانت مدينة اسبارطة مجتمعا معسكرا ، لم تقدم للبشرية مصطلحا ولا مفهوما ولا علما ، ويصفها ول ديورانت ( 1885ـ 1981) في كتابه الأشهر عالميا ” قصة الحضارة ” بأنها دولة بلا حضارة ، إذ حتى الموسيقى كان ممنوع تطويرها ، فمن غير المسموح زيادة وتر على آلة موسيقية ، فيما الغناء تم تجنيده ، وما عاد المغنون ينشدون إلا جماعيا وبما يمجد الحياة العسكرية والنظام القائم .
على النقيض من اسبارطة ، كانت أثينا تناقش وتجادل في كل شيء ، لم يبق فن ولا علم ولا فكرة ولامفهوم لم يناقشها أهل أثينا ، من الطبيعة وما بعدها ، إلى الإنسان والكون والوجود ، وحتى المحرمات السياسية مثل أنظمة الحكم خضعت بدورها لجدل ونقاش عميقين ، فأفلاطون ( 428 ق .م ـ 347 ق.م) أفاض تفصيلا بها في كتاب ” الجمهورية ” وأطال أرسطو(384 ق.م ـ 322.ق.م) شرحا لها في كتاب ” السياسيات ” ، وفيما يرى أفلاطون أن طبقة المحاربين واجبها الحفاظ على حدود الدولة ليس إلا ، وحذر من مخاطر استيلاء هذه الطبقة على الدولة ، فإن أرسطو رأى إشراكها في الحكم وعلى قاعدة خضوعها لحكم الفضلاء .
لم يناقش العرب أنظمة الحكم ولا أنواع السياسات وأجناسها ، وتجنبوا في عصور الترجمة من اليونانية الى العربية نقل التراث الأدبي اليوناني ، بإعتباره خارجا عن الحاجة العربية ، فلدى العرب منه ما يغنيهم عن ألوان غيرهم وخصوصا في مجال الشعر ، وتفادوا تحليل السياسة كظاهرة وآليات حكم وسلطة ، وعلى ما يقول محمد عابد الجابري في مقدمة ” الضروري من السياسة ” ، أن التراث العربي ـ الإسلامي عرف ثلاثة اصناف من الفكر السياسي ، الأول يدور حول الخلافة والإمامة ، والثاني حول الآداب السلطانية ونصائح الملوك ، والثالث أقرب إلى الفلسفة من السياسة ، ودارت هذه الأصناف بمجموعها حول السياسة كفعل نصيحة للملوك انطلاقا من قاعدة القول ” من اشتدت وطأته وجبت طاعته ” ، ونزولا عند ذلك ، ذهب العرب إلى نحل الكتب السياسية وتنسيبها إلى فلاسفة اليونان كما فعل يوسف ولد الداية ( ت ـ 950 م ) في كتاب أسماه ” العهود اليونانية ” ، وأرجعه إلى أفلاطون ، او مثلما فعل يوحنا بن البطريق (730 م ـ 815 م) صديق الخليفة العباسي المأمون ، حين وضع كتابا بعنوان ” سر الأسرار: السياسة في تدبير الرئاسة ” وألصقه بأرسطو ، وكلا الكتابين لا علاقة لهما بأفلاطون ولا بأرسطو ، ولكنهما شاعا وسادا في عصور الترجمة من اليونانية لإسقاط “حكمة الإغريق ” على سلطة المستقوي ، على ما يرى أيضا عبد الرحمن بدوي في كتابه ” الأصول اليونانية للنظريات السياسية في الإسلام “.
عن هذه القاعدة شذ إبن رشد ( 1125 م ـ 1198) في كتابه ” الضروي من السياسة : مختصر كتاب السياسة لأفلاطون” ، ففيه اكتشاف لوجه آخر من وجوه عقلانية ابن رشد وأفقه الإصلاحي ” على أرض الواقع ، فإبن رشد ضمن هذا النحو يبدو معارضا لما يسميه ” وحدانية التسلط ” للنظام الذي كان قائما في عصره ، ولو جرت مقارنته مع الفارابي (875 م ـ 950) ومدينته الفاضلة ، فإن الفارابي يرى أسبقية الرئيس الفاضل للمدينة على المدينة ذاتها في شكلها وصفاتها ، مما يقربه من سياسة الآداب السلطانية القائمة على أسبقية الحاكم على النصيحة .
بعد إبن رشد ، سينتظر العرب مئتي عام حتى يطل إبن خلدون (1332 م ـ 1406) بنظرية العمران غير المسبوقة بشريا على الإطلاق ، وإذ كان هذا الفتح المعرفي الفذ لإبن خلدون في دراسته لأسباب العمران في الأرض وأطوار الدول وصراع البداوة والحضارة ، فإن رؤيته لشكل النظام السياسي كانت تقليدية على غرار ما سبقها من رؤى مطبوعة بسلطة المتغلب وهيمنته ووجوب طاعته ، مع مفارقة مدهشة تكمن في تجويزه وجود خليفتين أو حاكمين .
هل فتح إبن خلدون باب التفكير على أكثر من شكل للنظام السياسي حين قال بجواز وجود خليفتين ؟.
ذاك ما يدعو للتأمل بالفعل .
على أي حال ، ستخبو بعد ابن خلدون الإضافات الفكرية المرموقة ، إلى أن يطل بعد أربعمئة عام ، عبدالرحمن الكواكبي ( 1855 ـ 1902) في كتابه الشهير ” طبائع الإستبداد ومصارع الإستعباد ” ، وفيه يقول : ” لا تُعرف للأقدمين كتب مخصوصة في السياسة لغير مؤسسي الجمهوريات في اليونان والرومان ” ويقول في موضع آخر : ” وأما في القرون المتوسطة ، فلا تؤثر أبحاث مفصلة في هذا الفن لغير علماء الإسلام ، فهم ألفوا فيها ممزوجا في الأخلاق ، كالرازي والطوسي والغزالي ، وممزوجا بالأدب كالمعري والمتنبي ، وممزوجا في التاريخ كإبن خلدون وإبن بطوطة ” ، وكأن الكواكبي في هذا الشأن يقول إن ثمة نقيصة في العقل العربي لعزوفه عن الخوض في إشكاليات السياسة وأنظمة الحكم ، فاستقر المخيال السياسي لدى العرب على قاعدة تساوي بين الغلبة والسياسة كأنهما مترادفان لمعنى واحد ودلالة واحدة ، إلا أن الكواكبي يذكر قلة من المتأخرين العرب الذين سبقوه بالتفكير السياسي ويقول : ” المؤلفون العرب قليلون ومقلون والذين يستحقون الذكر ، رفاعة الطهطاوي و خير الدين التونسي وأحمد فارس وسليم البستاني ” ، وفي سياق وصفه لأنواع الإستبداد وأشكاله وأنماطه يقول : ” أشد مراتب الإستبداد حكومة الفرد المطلق القائد للجيش “.
قبيل عبد الرحمن الكواكبي إذا ، ومعه وبعده ، تم فتح النقاش العربي في السياسة ، فتعددت الآراء وزخرت عقود ما قبل خمسينيات القرن العشرين بأفكار قل نظيرها لاحقا ، ولتظهر بعد حين وتشتد بعد آوان مقولة ” حكم الجيوش ” كضرورة لضبط المجتمع وإيقاف هياجه وصراعاته ، وهذا يعيد النقاش بطبيعة الحال إلى ما قبل السياسة ، وإلى تجاهل القواعد التي تعتمدها الجيوش في الحكم ، وإلى التغافل عن المؤديات والنهايات المفجعة التي تجلبها سلطات الجيوش وقبضاتها .
وفي ذلك حديث طويل ، هذه بعض تفاصيله :
يرتكز ” حكم الجيوش ” على مقولة أخلاقية مضمونها أن الشرف العسكري أعلى قيمة من الفعل السياسي ، فالجيوش تولي اهتمامها للدولة والوطن ، والسياسيون يولون اهتماماتهم لمصالحهم ونزعاتهم ونزاعاتهم وأهوائهم .
وتحت ظلال هذه المقولة تتقدم الجيوش نحو السلطة ، فتصادرها كافة ، تحت ذريعة إعادة تنظيمها بعد فساد ضربها أو بعد فوضى عصفت بها ، أو بعد خيانة من كان يشغلها سابقا ، وغالبا ، ما تؤكد الجيوش القابضة على السلطة حديثا ، أن استيلاءها على السلطة مؤقت وإلى أجل محدد ، وأنها ستعمل على حماية الحريات العامة ، وعلى تهيئة الأجواء لإنتخابات نزيهة ، وهي في خطابها الواعد ذاك ، تقبض على السلطة القضائية ، وتحل المجالس النيابية المنتخبة ، وتتعهد بصياغة دستور جديد ، وتطلق العنان للحديث عن مشاريع اقتصادية تنموية ضخمة تنقل البلاد من حال إلى حال .
وحين تتمكن ” سلطة الجيوش” من وضعيتها الحاكمة ، تذهب إلى حل الأحزاب ، وإلى السيطرة على الإعلام ، وإلى تكوين طبقة اجتماعية ـ سياسية تسير في ركبها ، وفي سياق تكوين هذه الطبقة ، يتكثف خطاب التحذير من الخارج وخطاب التخيير بين الأمن أو الفوضى في الداخل ، ويترافق ذلك في أول الأمر ، مع تقديمات مالية او توظيفية للطبقة الإجتماعية الموالية المراد تكوينها ، فالجيوش تدرك أن آليات الإستمرار في السلطة لا تقتصر على ” القوة الصافية ” ، بل هي بحاجة إلى بيئات موالية تواجه بها معارضيها والأحزاب التقليدية.
وكلما اطمأنت الجيوش إلى استقرار سلطتها ، تلجأ إلى الإنقلاب على وعودها الأولى ، فتعمد إلى تنظيم انتخابات نيابية تضمن لها الفوز الساحق والماحق ، ثم تصوغ دستورا يتكفل مجلس النواب الجديد بالمصادقة عليه ، وبعد ذلك تتجه إلى إبرام صفقات سلاح كبرى مع دول كبرى ، يكون هدفها توثيق وتقوية العلاقة بين ” سلطة الجيوش ” والخارج.
وحين يمر وقت ، قصير أو طويل ، على “سلطة الجيوش” ، يأخذ التطلع إلى ” مغانم السلطة ” مأخذا من قادة سلطة الجيوش ” ، فتدب الهوجاء بينهم وتكثر نزاعاتهم ، وتبدأ مرحلة التصفيات بين القادة المتصارعين ، فيقاتل بعضهم بعضا ويتذابحون بشراسة وبلاهوادة ، فينجو من يحالفهم او من يحالفه حظ الحياة ، والنظر إلى ” سلطات الجيوش ” التي تعاقبت على العالم العربي ، تعطي صورة واضحة عمن قضوا نحبهم اقتتالا وغيلة وسجنا ، وعمن بقي حيا مع أقلية شاءت الأقدار أن تقتل أكثرية من رافقها إلى جلجلة السلطة .
تقدم ” سلطة الجيوش ” نفسها وفقا لمظهرين :
ـ الأول : أن مؤسسة الجيوش هي الأكثر تنظيما ومأسسة وتطويرا وتطورا من مؤسسات المجتمع الأخرى ، فالجيوش أكثر مناقبية يعني أكثر انضباطا ، كما أنها أكثر التصاقا بصناعات العصر والحداثة ، أي التكنولوجيا ، نظرا لحاجتها الدائمة إلى التسليح الحديث ، وبالتالي فهي المؤسسة الأكثر حداثة وتطورا في المجتمع .
ـ الثاني : أن اتساع الطبقة الإجتماعية الموالية التي تنتجها “سلطة الجيوش “، وهي عادة أوسع من ” جماهيرية ” الأحزاب أو المعارضات ، دليل إلى رجاحة الحكم القائم على ” سلطة الجيوش “.
وحقيقة الأمر ، أن أحوال الوقائع وحوادث الأيام ، تنفي ذلك ، وتجعل هذين المظهرين أشبه بالصورة الخارجية إذا تمت استعارة منطق أرسطو الذي لا ينظر إلى تفاصيل المادة فيكتفي بالصورة ويظنها اليقين ، فالمناقبية والإنضباط ، وهما من شعارات الجيوش وخطاباتها ، لم تمنعا انقلاب قادة الجيوش على قادة الجيوش ، ولا انقلابات الضباط الأصغر رتبة على الضباط الأكبر رتبة ، ولا شك أن الناظر إلى أحوال العرب وأيام انقلاباتهم لا يحتاج أمثلة شائعة وقرائن ثابتة .
وأما ما ينحو نحو القول بأن مؤسسة الجيوش هي الأكثر حداثة وعصرنة ، ففي ذلك القول الكثير من العسف ، فنسبة كبرى من الضباط والجنود حين تحال على التقاعد بعد خدمة مديدة ، عادة ما تعود إلى نمط العيش التقليدي في بيئاتها المحلية ، أي تنشد إلى جذورها الأولى ، فيما نسبة كبرى أخرى ، تنخرط بعد التقاعد ، في مهن لا تتطلب مهارة ، من مثل قيادة سيارات الأجرة أو الحراسات الأمنية أو الأعمال التجارية المختلفة ، وهذا لا يجعلها مختلفة عن فئات اجتماعية عدة ، وكل هذا يطرح أسئلة التطور والحداثة والعصرنة على مؤسسة الجيوش وعن مكامن التطور التي تميزها عن غيرها ، وعن الفرد الحداثي والإنسان الجديد الذي تنتجه مؤسسة الجيوش ولا تنتجه مؤسسات وهيئات المجتمع الأخرى ؟!.
والمظهر الثاني المتمثل بالطبقة الإجتماعية ـ السياسية الموالية ، فهو أكثر المظاهر الخطابية خداعا ، إنه شكل لا صلة له بالمضمون وصورة بلا واقع ، فالطبقة الإجتماعية ـ السياسية التي تبدو موالية ل ” سلطة الجيوش ” في لحظة استئثارها بالسلطة ، هي أكثر الطبقات أوالفئات تمردا على ” سلطة الجيوش ” حين تتعرض هذه السلطة لتحدي حقيقي ، وقد تكون أولى الشرائح الإجتماعية التي ترفع السلاح بوجه ” سلطة الجيوش” حين اهتزاز السلطة المذكورة ، لأسباب في طليعتها أن هذه الطبقة ـ الفئة ، تعتبر أن موالاتها ل ” سلطة الجيوش” ، كانت أثمانه الريعية قليلة ، ولم تنل ما تستحقه من ولاء سوى مكاسب أولية انخفضت نسبها وأحجامها ولم تعد تسد الحاجة والفاقة مع تعاقب الأيام والسنوات ، كما أن خطاب الأمن الذي بنت ” سلطة الجيوش ” حكمها عليه ، تفكك وانهار ، مما يعني فقدانها للمكاسب المادية التي أرادتها وللأمن الذي أنشدته ، ولعل ما جرى مع النظام العراقي السابق بقيادة صدام حسين ( 2003)، وما تكرر مع النظام الليبي المنهار بقيادة معمر القذافي ( 2001)، وما يحدث في السودان والجزائر منذ العام 2018 ، شواهد ومشاهد تختزن الكثير من عوامل عدم الرهان على ولاء طبقة شعبية تنتجها ” سلطة الجيوش” ، فهذا الولاء رهن بسخاء المكاسب وقوة السلطة ، وحين تذهب المكاسب وتهتز القوة ، تتبدد هذه الطبقة .
من مأثورات الداعين إلى ” سلطة الجيوش ” ، أن أغلب الناس أغبياء وقليلي الفهم والوعي ، ولذلك لا بد من قوة تجرهم من رقابهم وأذيالهم ، ومثل هذه المأثورات سار عليها اليساريون السوفييت سبعة عقود ، فكانت النتيجة انهيار الإتحاد السوفييتي ، وفي التاريخ العربي ـ الإسلامي نماذج احتقارية لا تقل شأنا عن النموذج السوفييتي ، ففرقة المعتزلة التي تعاونت مع ثلاثة خلفاء عباسيين ، طفح خطابها بذم العامة واحتقارهم ، ومثلها بعض فرق أخرى ، ونقل المؤرخون والضليعون في الملل والنحل الإسلامية ،عن الفقيه المعتزلي ثمامة بن الأشرس قوله للخليفة العباسي المأمون : ” … وما العامة ، والله لو وجهت إنسانا ، على عاتقه سواد ، ومعه عصا ، لساق إليك عشرة آلاف من العامة “.
إن تلك المأثورات تغري من بيده السلطة ، وتغوي من اجتمعت بقبضته دوائر القوة ، خصوصا حين يكون قائلها فقيه أو مثقف ، فتقع الجيوش تحت سطوة إغواء الكلمة فتقبض بشراسة على سطوة القوة ، وسرعان ما تتحول الجيوش نفسها التي حكمت بالقوة إلى ضحايا القوة المضادة ، فحكم القوة يجلب قوة مضادة ، وهكذا تستمر آليات الصراع بين القوة المستشرسة بالسلطة والقوة المتربصة بالسلطة ، إلى أن تنقشع الرؤية عن دمار مبين .
هل يراد تكرار فجائع العقود العربية الماضية، حين يذهب مثقفون إلى القول بأن الخلاص محصور ب ” سلطة الجيوش ” فيدعون الجيوش إلى التحكم بالمصير والمصائر؟ .
تكادالإجابة على هذا السؤال تقول إن بعض المثقفين يمتهنون مهنة الجلادين حين يزينون للجيوش طريق السلطة ، جلادون يبغون تحويل الجيوش والشعوب إلى ضحايا من جديد، بحيث تكون الصورة على هذا الوجه : فريق من الجيش ينقلب على سلطة فريق من الجيش ، وسلطة الجيش تواجه الشعب أو فريقا منه ، ومختصر العقود العربية الماضية لا يحيد عن هذه الصورة المفجعة.
ما العمل ؟
ذاك هو السؤال .