مما لا شك فيه أن التاريخ يعد من أهم العلوم الإنسانية علي الإطلاق ، ذلك لما يحتويه من أنباء الأمم السابقة و تراثها الإيجابي منه و السلبي ، فمنه – التاريخ – نستخلص العبر ، و من أحداثه نستقرأ و نحلل و نستنتج أحوال العالم القديم و تجاربه ، و نقارن و نقيس علي واقعنا تجنبًا للوقوع في أخطاء الماضي .
كذلك علم الجغرافيا ، فإن كان للتاريخ بعد زمني ، فإن الجغرافيا تمثل البعد المكاني للأحداث ، فما من حدث وقع و يقع إلا و له مكان كما له من زمان ، فكلاهما – التاريخ و الجغرافيا – علمان لا ينفصلان بل يكمل بعضهما البعض .
و للقصص من الأهمية و الدلالة علي ما سبق أنها كانت الأسلوب الأمثل الذي خاطب به الله سبحانه و تعالي نبيه الكريم محمد عليه الصلاة و السلام ، فالقصة لها أثرها العميق في النفوس ، لما فيها من التشويق ، و جوانب الإعتبار و الإتعاظ ، فنجد أن الله سبحانه و تعالي قد ساق من القصص ما يمتاز بسمو الغاية و شريف المقصد و صدق الكلمة و الموضوع ، و تحري الحقيقة بحيث لا تشوبها شائبة من الوهم أو الخيال أو مخالفة الواقع .
فيقول الله تبارك و تعالي : ” ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْقُرَىٰ نَقُصُّهُ عَلَيْكَ ۖ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ ” آيه ١٠٠ سورة هود .
و يقول سبحانه و تعالي : ” لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ” آيه ١١١ سورة يوسف .
و يقول تعالي : ” فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ” آيه ١٧٦ سورة الأعراف .
فكانت القصة هي الأسلوب الأمثل الذي اتبعه الله عز و جل و استخدمه لتعليم و تثقيف ، و تثبيت نبيه الكريم محمد عليه الصلاة و السلام ، بل و للتسرية عنه في الشدائد .
و مما علمناه من القصص القرءاني أن للحياة دورة و سُنة لابد منها ، لا تستقيم بدونها ، و هي أن لكل أمة أجل ، و أن كل نبي و رسول لابد له من قوم يكذبون و يجحدون و يتكبرون و يضلون حتي يأذن الله بنصرة نبيه و رسوله و يكون له الكلمة العليا ، فينتصر الحق و يزهق الباطل ، و هكذا دواليك ، تعلو الأمم و تسمو و تتعاظم كافرة كانت أو مهتدية حتي يأتي أمر الله فتصير إلي الفناء .
يقول سبحانه و تعالي :” وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ” آيه ١٤٠ سورة آل عمران .
و يحدثنا التاريخ علي مختلف منابعه و رواته ، منتصرين أو مهزومين ، عن حقب ماضية شهدت ظهور أمم و حضارات علت في الأرض إلي حين ثم انحسرت انكماشًا و تدهورًا و خفوتًا ، حتي صارت أطلال و آثار يشهدها العالم الآن .. لم يسُد العالم السلام المطلق بل شهد صراعات و حروب بين هذه الأمة و تلك ، توسعًا و طمعًا في الثروات ، و هكذا كانت ، حتي صارت دفاعًا و نشرًا لعقيدة أو مذهب ، سواء كان عن حق إسلاميًا ، أو زورًا صليبيًا ، فكان الصراع فارسيًا رومانيًا ، و من قبل اغريقيًا رومانيًا ( الحرب المقدونية ) ، حتي صار عربيًا إسلاميًا فارسيًا رومانيًا ، إذ بسط العرب المسلمين سيطرتهم و نفوذهم بفتوحات اسلامية علي أراض كانت تحت حكم قطبي ذلك العصر من الفرس و الروم ، فسادت الحضارة الاسلامية مشارق الأرض و مغاربها ، حتي أصابها الوهن و الضعف و التشتت و التشرذم ، و سادت الأهواء الشخصية و النعرات القبلية ، فإنكمشت في مقابل ظهور أوروبي واسع النطاق مستتر تحت قناع الحروب الصليبية ، ما لبث أن انكشف عن وجه استعماري قبيح ، سارق للثروات ، ماحي للهويات و القوميات .
إلي أن حلت حقبة الثورات الاستقلالية ضد استبداد الاستعمار ، ذلك الذي لم يجل عن مستعمراته إلا بزرع بذور الفتنة و عوامل التدخل متي شاء ، فقسم و فتت و نفخ من روحه الشيطانية ، حتي إذا سنحت الفرصة عاد تحت رداء و مسمي جديد ، ألا و هو المصلح التنويري الديمقراطي ، حامل مشعل التقدم ، بعد أن سرق مقوماته في غفلة من كانوا تحت سيطرته ، لتقبع المستعمرات تحت سيطرته مدي الدهر .
فإذا انحسر نفوذ فرنسا و انجلترا و باقي المستعمرين الأوروبيين ، ظهرت قوة أخري أكثر جبروتًا و تحكمًا في العالم ، الولايات المتحدة الأمريكية ، تلك التي لم تكن شيئا مذكورًا بالأمس القريب ، فصارت تحت ظلها أوروبا و ارتضت بدور التابع حتي لا تمحي ، فالمصالح واحدة و الثروات كثيرة لا تنضب في المستعمرات القديمة الحديثة ، حتي ظهر التنين و استعاد الدب توازنه ، و ترهلت أكثر فأكثر الدول العربية و الإسلامية و تداعت عليها الأمم .
و الغريب أن تلك المترهلة المتداعي عليها تظن بنفسها الظنون ، فتراها تسير في ركب المستعمر راضية مرضية ،ظانة أنها قد أمنت مكره ، و أنها صادقته فصارت في منأي عن أطماعه و شروره ، أي سذاجة تلك ؟! ، في حين أنها عادت و جارت علي دول ذات هوية واحدة و لغة واحدة و دين واحد ، لكنها السياسة البلهاء من أطفال يعدون ملوك و أمراء .
و الصراعات التي كانت تستغرق قرونًا من الزمان قديما ، نراها اليوم لم تستغرق عدة عقود من الزمان ، تسارعت الوتيرة بشكل مخيف ، فها نحن الآن أمام صراعات غربية شرقية ( أمريكية أوروبية – روسية صينية ) ، ذلك بعد أن انفضوا و أجهزوا علي الحضارة العربية الإسلامية ، فلم يعد لتلك الأخيرة أي أثر أو نفوذ أو قوة تذكر ، لا تأثير داخلي حتي ، إذ فقدت الشعوب هويتها و لغتها العربية و الأهم دينها الذي لم يعد له بينهم أي مقام إلا من رحم ربي .
فالحضارة الأمريكية المادية قد فرضت نفسها عن طريق الإقتصاد المتفوق و القوة العسكرية العملاقة ، بالتالي طمست تاريخ دول و غيبت شعوبها ، فلا رموز إلا رموزهم ، و لا ثقافة إلا ثقافتهم ، فالحرية هي الحرية الجنسية و إباحة الشذوذ ، و الشعوذة العلمية متمثلة في تطور تكنولوجي رهيب يخافونه هم أنفسهم .
و الشيطان العدو يقف من خلف الستار ينظر و يتأمل مزهوًا بإنتصاراته المتتالية ، كيف لا و قد تخلص من ألد أعدائه ” القوة الإسلامية الموحدة” ، و هو الآن يستنزف باقي القوي المتغطرسة حتي يتسلم الأرض خالصة طواعية بنوه ” بني صهيون ” ، فهم الأحق بها في معتقدهم ، هم الأسياد و نحن العبيد .
أما مصر و التي كانت إحدي الحضارات القائمة بذاتها ، بل هي أم الحضارات و أعرفها و أفخمها ، صعد نجمها أحقاب و خفت أحقاب ، توسعت أي نعم لكن ليس عدوانًا و ظلمًا بل بسط نفوذ دفاعًا عن نفسها و عن أمة الإسلام و عقيدته ، احتلت و استعمرت دهور ، لكنها حافظت علي قوامها و مقدراتها ، إلا أنه يبدو أنها سلمت في الآونة الأخيرة ، تحت ضغوط و تضييق سياسي و جغرافي و اقتصادي رهيب لم تشهده من قبل …
و عجلة الزمان تدور ، و الأيام دول ، هكذا استخلصنا من التاريخ ، فما العلو إلا نذير لهبوط مدو ، و ما الضعف و الإستكانة و الإنزواء إلا تحضير لنصرة و استعادة مكانة ، لكن لا يخدعنكم القول و الأمل ، فما ضعفت الدول إلا بضعف أبناء شعوبها و تفريطهم في حقوقهم و مكتسباتهم ، و لا يكون الإنتصار و العزة إلا بقوة و عزة أبناء الشعوب أيضًا ، لكن ليس بهؤلاء الذين كانوا ضعفاء بالأمس ، فالنصر و العزة لهم أناس آخرون يعرفونهما و يقدرونهما يأتي بهم الله لينصروه أولًا فينصرهم بدوره سبحانه و تعالي ، فلا تطمعوا في نصر الله و قد خذلتموه بضعفكم و استكانتكم ، فقد ألفتم الدعة و ركنتم إلي غيّ الشيطان و صادقتموه و هو لكم عدو مبين …
انصروا الله أولًا يا سادة حتي ينصركم ، فالنصر لا يكمن فيكم بثرواتكم و قواتكم بل النصر من عند الله يهيئه لمن يشاء متي شاء .
يقول تعالي : ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ” آيه ٧ سورة محمد .
و يقول تعالي : ” وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ ۚ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ” آيه ١٠ سورة الأنفال .
أما هؤلاء الذين علوا في الأرض و استكبروا فيها ، فيقول الحق سبحانه و تعالي : ” وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ” آيه ٤٢ سورة ابراهيم .
و يقول تعالي : ” وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ ۚ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا ۚ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ” آية ١٧٨ سورة آل عمران .
و يحذرنا الله نفسه فيقول عز و جل : ” وَكَذَٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ ۚ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ” آيه ١٠٢ سورة هود .
و لله الأمر من قبل و من بعد .. حفظنا الله و إياكم .