هل أنت شجاع ؟!! … سؤال قد تواجهه في حياتك ، قد يطرح مرة في العمر أو أكثر ، و قد يطرح من شخص أو قد تسأله لنفسك ، أما إذا طرح من شخص آخر فهو بالتأكيد لا يعرفك ، لا يعرف كينونتك الداخلية ، تلك الكينونة أو الشخصية الداخلية التي لا يتطلع عليها أحد سوي نفسك ، فالظاهر يخفي داخله و يبطن الكثير ، فقد تبدو أمام الناس شجاع إلي أن يأتي الموقف الذي يثبت العكس أو يؤكد تلك الشجاعة ، و قد تبدو ضعيفًا مكسورًا إلا أن لديك من الشجاعة ما يهابه الكثيرين و يخشوه و تصبح في نظرهم البطل الشجاع .
أما إذا طرحته علي نفسك فكونك تسأل نفسك هذا السؤال يعتبر شجاعة منك ، فأنت إذًا قادر علي مواجهة نفسك بسؤال مباغت في موقف يتطلب منك الشجاعة سواء بالتصرف بفعل أو بقول يترتب عليه أشياء كثيرة تستدعي منك ردة فعل جريئة لم تعهدها من قبل فإما أن أكون شجاع أو لا ، و بكل تأكيد و في كلتا الحالتين عليك تحمل نتيجة إجابتك .
دعنا إذًا نلقي الضؤ علي معني الشجاعة ، سقت إليك قبل قليل كلمة جريئة في السطور السابقة ، فالشجاعة في اللغة العربية تفسر علي أصل الجرأة و الإقدام و الشدة في البأس ، هكذا فسرها العرب و أمعنوا في تفسيرها بأن الشجاع هو صاحب القلب الشديد في مواجهة الموت و الزود عن نفسه و ماله و عرضه و دينه و المظلوم و كافة أوجه الحق .
و كما تري فإن الشجاعة ليست في قوة البنيان و الهيئة العضلية للإنسان بل هي في القلب و ما أدراك ما القلب !! .. تلك العضلة التي أودع الله سبحانه و تعالي بها أسرار لا حصر لها ، فقد يفلح المرء بقلبه و قد يضل بهوي قلبه … آه !!
إذًا فإن الجرأة هي مكمن الشجاعة و الباعث الحقيقي للإقدام علي عمل كل ما هو جديد و غريب دون الإساءة لنفسك أو للغير بالطبع ، الإقدام علي المكاره سواء في الحرب أو صعوبات الحياة ، تلك الحياة التي لا تخلو من العقبات و الابتلاءات ، فالجرئ الشجاع المقدام يستطيع أن يواجه و يتحمل و يثابر و لا يعوقه عائق فهو مسلح بقلب سليم مؤمن بقضاء الله و قدره ، و بأن تلك الدنيا هي دار ابتلاءات سواء علي المستوي الشخصي أو علي المستوي العام .
هذا و قد حثنا الله سبحانه و تعالي علي الشجاعة في مواضع عدة في القرءان الكريم ففي سورة البقرة ” وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ” (190)
و في سورة الأنفال ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ” .
هذا حث من الله علي الثبات و الجرأة و الإقدام في سبيل الله ، هذا و كان سيد الخلق محمد عليه الصلاة و السلام يستعيذ من الجبن في إشارة أخري للحث علي الشجاعة و الإقدام بقلب ثابت و قوي .
مما سبق يتضح لنا و يتجلي معني الشجاعة عند العرب ، فهي إذًا من أنبل و أروع الصفات التي يتباري العرب في التحلي بها أو هكذا كانوا ..!!
و دعني أسيق لك بعض الحكم عن الشجاعة ، ” الحذر ليس بجبن كما أن التهور ليس بشجاعة ” ، ” الرجل الذي تتوفر فيه الشجاعة بلا استقامة لا يعدو أن يكون قاطع طريق ” ، ” أهم شئ هو ألا تخاف فعدوك الذي يجبرك علي التراجع يخافك في تلك اللحظة ذاتها “.
هذا و قد تحدث العديد من العلماء عن الشجاعة و علي رأسهم ابن خلدون في مقدمته الشهيرة في الفصل الخامس مشيرًا إلي أن أهل البدو أقرب إلي الشجاعة من أهل الحضر و السبب في ذلك و الكلام علي لسانه أن أهل الحضر ألقوا جنوبهم علي مهاد الراحة و الدعة و انغمسوا في النعيم و الترف و وكلوا أمرهم في المدافعة عن أموالهم و أنفسهم إلي واليهم و الحاكم الذي يسوسهم و الحامية التي تولت حراستهم و استناموا إلي الأسوار التي تحوطهم و الحرز الذي يحول دونهم … و أهل البدو لتفردهم عن التجمع و توحشهم في الضواحي و بعدهم عن الحامية و انتباذهم عن الأسوار و الأبواب قائمون بالمدافعة عن أنفسهم لا يكلونها إلي سواهم و لا يثقون فيها بغيرهم فهم دائما يحملون السلاح .. هذا بعض مما جاء علي لسان ابن خلدون .
نري مما ورد في مقدمة ابن خلدون عن الشجاعة أنه قد تحدث عنها في المجمل مقارنًا بين مجتمع الحضر و مجتمع البدو لا بين إنسان و آخر ، أي أن الحديث عن شجاعة شعب !!
هنا نعرج بالشجاعة إلي طريق آخر ، طريق الجموع لا الفرادي ، طريق الشعوب الجريئة التي تملك من صفات الشجاعة و دعائمها ما يأهلها إلي صنع المعجزات من ريادة و قيادة لما حولها من الشعوب التي تفتقر للجرأة و الإقدام ، هذا ما كان للأمة الإسلامية عندما صالت و جالت و غزت و فتحت القلوب قبل أن تفتح الدول و تقودها .
و القلب النابض لتلك الأمة هو الشعب المصري ، ذاك الشعب من وجهة نظري هو شعب جرئ بطبعه مقدام له من مقومات الشجاعة ما جعله يثبت عند أشد الشدائد مواجهًا أعتي الإمبراطوريات علي مدي تاريخه ، شعب خرج منه من هم رموز للشجاعة علي مر العصور يواجهون أشد الحكام صلابة و أعتاهم اجرام ، قد يخبو نجمه لسنوات طوال عجاف لكن تظل جذور القوة و الإرادة و الإقدام راسخة في ربوع مصر ، لا تدري متي و أين يخرج ذلك الشجاع الذي يستثير و يلهب مشاعر الشعب أجمع و يروي بثباته و جرأته بذور الشجاعة فإذا هي تنبت و تزدهر و تستعيد سلطانها سواء كان الجائر عليه حاكم أو دولة ما تري في نفسها العظمة .
و قد يحدث العكس كما حدث في عهد حكم محمد علي باشا عندما كان الشعب المصري في أوج نشاطه السياسي و شجاعته الفطرية في مواجهة خورشيد باشا و عزله و فرض الإرادة الشعبية بقيادة السيد عمر مكرم علي الباب العالي و السلطان العثماني باختيار محمد علي واليًا علي مصر خلفًا للمعزول خورشيد باشا ، إلي أن أخذت تلك الصحوة و الشعلة المستنيرة في الخفوت و تفككت الزعامة الشعبية و فقدت هيبتها بل و فقد الشعب شجاعته بعد أحداث مذبحة القلعة سنة ١٨١١ م ، تلك المذبحة و ما ترتب عليها قال فيها عبد الرحمن الرافعي في كتابه عصر محمد علي في الفصل الرابع ما يلي ” و من جهة أخري فإن الفتك بالمماليك علي هذه الصورة الرهيبة قد كان له أثر عميق في حالة الشعب النفسية ، لأن مذبحة القلعة أدخلت الرعب في قلوب الناس و كان من نتائجها أن استولت الرهبة علي القلوب ، فلم يعد ممكنًا إلي زمن طويل أن تعود الشجاعة و الطمأنينة إلي نفوس الناس ، و الشجاعة خلق عظيم تحرص عليه الأمم الطامحة إلي العلا ، و هي قوام الأخلاق و الفضائل القومية ، فإذا فقد الشعب الشجاعة و حلت الرهبة مكانها كان ذلك نذيرًا بانحلال الحياة القومية و فسادها “.
لست بصدد تحليل نفسية الشعب المصري حاليا و ما إذا كانت تتملكه الرهبة و الاستكانة أم هو يتحلي بالخلق العظيم و الصفات النبيلة ..!!
خلاصة القول أن التحلي بالجرأة و الإقدام و الإرادة القوية من شأنه أن يرفع من قدر الإنسان و مقامه بين الناس ، كذلك هي الشعوب فالشعب كائن حي قائم بذاته بنيانه أنا و أنت و هي ، الكل في واحد يستطيع أن يقيم ميزان العدل و الحق بين الأمم ، لا ينحني و لا يخضع طالما قلبه سليم مؤمن لا يخاف و لا يهاب إلا خالقه سبحانه و تعاليمعلش .