مقال

في كل سنبلة مائة حبة

بقلم عاصم صبحي

في كل سنبلة مائة حبة

” مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ۗ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ” آية ٢٦١ سورة البقرة .
للانفاق في سبيل الله أوجه عدة ، منها الجهاد في سبيل الله و بناء المساجد و المدارس ، و افطار الصائم و كفالة اليتيم ، و غيره مما فتح الله عليك من سبل الخير .
الانفاق ليس حكرًا علي الأفراد ، ذكور أو إناث ، و هذا ما نفهمه من صيغة الجمع في قوله تعالي في الآية السابقة ، فالكل مطالب بالانفاق في سبيل الله .
و أعد أولي الأمر و القائمون علي أمور الناس و شأنهم من المطالبين بالانفاق في سبيل الله ، بالتحديد حكام المسلمين .
فانفاق الحاكم علي رعيته من أموال و ثروات و خير البلد المحكوم هو فرض عين ، لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها ، و لقد حابي الله عز و جل أرض المسلمين بفيض من النعم و الثروات ، موزعة و مقسمة بحيث تتكامل الشعوب و تتكافل فيما بينها ، فنجد تلك البقعة من أرض المسلمين حباها الله بالوفر الوفير من النفط و الغاز الطبيعي ، و تلك حباها الله بالأنهار العذبة المتدفقة و الأراضي الخصبة الشاسعة ، و هذه بوفرة من مختلف أنواع المعادن ، و هذه حباها الله بما هو أشد نفعًا و لا يقدر بثمن و هو الانسان ، العقل البشري ، المورد البشري ، الشباب المورد الأهم ، فجميع الموارد مسخرة لخدمة الانسان .
و مصر من الدول التي اختصها الله سبحانه و تعالي بعظيم النعم التي لا تحصي ، بداية من موقعها الجغرافي الذي وفر لها المناخ المعتدل ، مرورًا بسواحلها الممتدة علي جانبي كل من البحر الأحمر شرقًا ، و البحر الأبيض المتوسط شمالًا ، بالاضافة إلي نهرها العظيم نهر النيل ، و الذي وفر لها التربة الخصبة الصالحة للزراعة طوال العام بمختلف أنواع و أصناف المحاصيل الزراعية ، إلي جانب ثرواتها المعدنية المختلفة المكتنزة في باطن أراضيها شمالًا و جنوبًا ، شرقًا و غربًا ، و بحرًا أيضا .
مصر التي يعد ترابها ذهبًا ، و التاريخ قديمه و حديثه شاهد علي ذلك ، فكان لازم و لابد من انسان ، من عقل بشري ، من طاقة جبارة و عزيمة و ارادة صلبة ، تعمل علي استخراج تلك الكنوز و الثروات ، و تسخيرها و الانتفاع بها ، لصالح البلد و لصالح البشرية ، فأنعم الله علي مصر بنعمة الانسان ، الانسان الذي صنع حضارة عريقة ضاربة جذورها في أعماق التاريخ .
انسان تعلم و تطور ، ثم علّم و نشر علومه و أضاء بها جنبات الأرض ، فهو إذًا الثروة و النعمة الأكبر التي حابي بها الله مصر ، تلك الثروة البشرية المتمثلة في شباب مصر الدائم .
ابتليت مصر علي مر عصورها المختلفة بالعديد من الحكام الذين أساءوا إلي شعبها ، ظلمًا و عدوانًا و اضطهادًا و تهميشًا و تجهيلًا و تجويعًا ، حكامًا جاروا علي مصر ، احتلالًا و استعبادًا ، و نهبًا لخيراتها و ثرواتها ، تلك الخيرات و الثروات التي لم تنضب علي مر العصور ، فكان كل ناهب و غاصب يجد في مصر ما يكفيه و ما يسيل له اللعاب ، فاستحقت مصر بحق لقب ” خزائن الأرض ” .
و علي النقيض ، فقد منّ الله علي مصر ، و علي فترات من تاريخها ، بحكام عرفوا قدرها ، و قدر ثرواتها ، الطبيعية و البشرية ، فأحسنوا إليها و أحسنوا استغلالها و توظيفها ، و أحسنوا تنميتها و رعوها حق رعايتها ، فأنبتت و أثمرت و آتت أكلها ، فصنعوا عظيم الصنع ، و شيدوا و أقاموا ، فخَلدوا و خُلدوا .
فكان انفاقهم في سبيل الله ، لم يؤثروا أنفسهم بل آثروا مصلحة البلاد و العباد ، أنفقوا علي المساجد و من قبل علي من يعمر تلك المساجد ، فعضدوا العلماء و قربوهم ، و انتفعوا بعلمهم و بمشورتهم ، و حفزوا الناس و الشباب علي النهل من معين علمهم ، فعظم الأجر و الثواب ، و عظم شأن العباد فارتقت و علت قيمة البلاد ، فسادت مصر و عظم شأنها و تسيدت .
هكذا هو حال الحاكم الذي ينفق في سبيل الله ، و أعظم الانفاق و الاستثمار هو الانفاق و الاستثمار في أعظم و أهم مورد حظيت به البلاد ألا و هو المورد البشري ، الانسان ، شباب مصر ثروتها التي لا تقدر بمال ، فالشاب سنبلة بداخلها مائة حبة ، إن صلح الشاب صلح بصلاحه أسرته ، أبنائه و بناته و أحفاده ، صلح عمله من وظيفة أو تجارة أو صناعة ، أو علم ينتفع به ، صلح دينه الذي هو عصمة أمره ، صلحت دنياه و من ورائها آخرته ، فهابه القاصي و الداني ، هابه العدو و حسب له ألف حساب .
و ما من سبيل لهذا كله إلا سبيل العلم ، فالبعلم وحده ترقي الأمم و لا ترقي الأمم إلا برقي أبنائها ، ننفق في العلم ، ننشئ المدارس و الجامعات ، نجهزها بجهازها من أسباب الأخذ بالعلم ، نعلو من شأن العلماء و المدرسين و أصحاب الخبرات و الكفاءات ، نأخذ برأي الحكماء و ذووا الخبرة و نعظم لهم أجرًا ، ننفق في التوسع في مجالات البحث العلمي ، ننهل من مختلف الثقافات ، نحرك عجلة الترجمة من و إلي العربية ، نحتسب انفاقنا في سبيل الله و علي الله الأجر و الثواب فهو الواسع العليم .
” فَأَمَّا مَنۡ أَعۡطَىٰ وَٱتَّقَىٰ (5) وَصَدَّقَ بِٱلۡحُسۡنَىٰ (6) فَسَنُيَسِّرُهُۥ لِلۡيُسۡرَىٰ (7) وَأَمَّا مَنۢ بَخِلَ وَٱسۡتَغۡنَىٰ (8) وَكَذَّبَ بِٱلۡحُسۡنَىٰ (9) فَسَنُيَسِّرُهُۥ لِلۡعُسۡرَىٰ (10) ” سورة الليل .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً

إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق